ما الداعي لذلك الضجيج الأوروبي، الضجيج الفرنسي بوجه خاص، كما لو أن فرنسوا ميتران لم يرفض «أن نكون ذيلاً للحصان الأميركي»، وكما لو أن ايمانويل ماكرون لم ير في حلف الأطلسي نوعاً من الانكشارية الأميركية، فكان أن دعا الى انشاء جيش أوروبي منفصل عن الحلف، ما حمل أحد معلقي «فوكس نيوز» على وصفه بأنه أشبه ما يكون بـ»صبية الملاهي الليلية»!
ثمة من يعتقد أن الاليزيه، وبعد صدمة الغواصات الاسترالية، وتشكيل الحلف الثلاثي بين واشنطن ولندن وكانبيرا (أوكوس)، لاحظ ألاّ مكان، ولا مكانة، لفرنسا خارج الملكوت الأميركي.
قلق حول أوكرانيا. بالأحرى حول ما بعد أوكرانيا. اذا وصلت الدبابات الروسية الى أبواب كييف، كم تحتاج من الوقت لتغدو على أبواب فيينا وروما وباريس؟
المؤرخون يقولون أن أوكرانيا حالة خاصة في اللاوعي التاريخي لدى الروس. فلاديمير العظيم هو من أنشأ روسيا المقدسة في الربع الأخير من القرن العاشر، لتصل حدود الدولة الى ضفاف البلطيق.
ابان العهد السوفياتي كتب الوزير الفرنسي آلان بيرفيت (عقب كتابه الشهير حول يقظة التنين) عن «الخيول التي تعشق الأنهار». هكذا كانت خيول فلاديمير. الآن زمن الدبابات التي تعشق المدن.
كثيرون أجروا المقارنات بين التفكير الاستراتيجي لدى كل من «فلاديمير العظيم» و فلاديمير الحالي، وان كان البعض رأى فيه «ستالين الآخر». أمير كييف كان وثنياً، وأقام معبداً على احدى تلال المدينة لستة آلهة بينهم الهان «صناعة ايرانية»، بالرغم من أن جدته لأبيه هي القديسة أولغا التي اصبح اسمها هيلانة بعد المعمودية.
فلاديمير كانت له 800 محظية، اضافة الى عشرات الزوجات، قبل أن يبلغه أن ثمة ديانات تقول بوحدانية الله، وأنها تنطوي على مفاهيم تتعلق بالكينونة البشرية. وكان أن أوفد بعثة الى ممالك الفولغا بهرها تعاليم الاسلام. المشكلة في أن هذه الديانة تحظر الخمر ولحم الخنزير.
لم تعجبه الديانة اليهودية كون الله تخلى عنها بعدما خسر اليهود أورشليم. البعثة الى القسطنطينية أذهلتها الكنائس، والتراتيل البيزنطية. عادت لتقول «لم نكن نعلم ما اذا كنا في الجنة أم على الأرض. ما نعلمه أن الله يسكن هناك»... الأمير اعتنق الأورثوذكسية ليلحق به رعاياه.
ما يستشف من كلام الساسة، والديبلوماسيين، والخبراء الروس، أن الأميركيين الذين يستشعرون ما يمكن وصفه «الخطر الوجودي»اذا ما تحالفت روسيا والصين، خططوا لانشاء أحزمة خانقة (وقاتلة) من الصواريخ حول البلدين. لا تفاصيل حول سيناريو المواجهة الذي أعدّه الخبراء العسكريون الروس ووضعوه بين يدي فلاديمير بوتين. لكن الثابت أن الرجل جاهز للقيام بخطوات ميديانة اذا ما تم الحاق أوكرانيا، وهي جزء من البيت الروسي، بالمنظومة الأطلسية.
المثير أن الأوروبيين الذين طالما أبدوا ضيقهم من «البعد العبثي ـ والبعد النرجسي ـ في المسار الاستراتيجي للولايات المتحدة»هم من يقرعون الطبول.
المفكر الروسي ألكسندر دوغين اذ يلاحظ أن اللوثة الأمبرطورية لدى قادة أوروبا الغربية والتي كانت وراء الحربين العالميتين، هي التي انتجت نابليون بونابرت وأدولف هتلر اللذين سقطا عند أبواب موسكو، ودون أن يفكر أي من القياصرة، وحتى في العهد السوفياتي، باحتلال أي من تلك الدول.
الجنرالات الروس واثقون من أنهم يستطيعون الاستيلاء على اقليم دونباس في غضون ساعات. لكن الكرملين ما زال يراهن على «اللحظة الديبلوماسية» (اللحظة الأخيرة)، والا فان الخيارات العسكرية على الطاولة، وبعدما أبلغ شين جينبينغ نظيره الروسي بتأييد اي خطوة يقوم بها.
هذا ما يثير مخاوف البنتاغون الذي يرى أنه اذا ما غزا الروس أوكرانيا سيعقب ذلك، حكماً، الغزو الصيني لتايوان. في هذه الحال ماذا تجدي العقوبات بعدما وصلت اشارات من موسكو وبكين بزعزعة النظام المالي، والمصرفي، العالمي باعتماد الايوان مكان الدولار؟
هل يعني ذلك زعزعة جدران البيت الأبيض بل وزعزعة جدران الأمبراطورية؟ المسالة أكثر تعقيداً بكثير...
|