يقدّم الكاتب الفرنسي Roland Hureux في كتابه الموثّق عن سورية، مراجعة نقدية عميقة تصل الى حد محاكمة ما يصفها بعمليات “تضليل” الأطلسي في الحرب السورية، ويصحّح بالمعلومات والتوثيق الكثير مما حصل، ويشرح ما يعتبرها الأسباب الحقيقة لهذه الحرب والتي كان هدف الغرب منها بالدرجة الأولى إطالة أمدها قدر الإمكان .ويبدو في طرحه هذا قريبا جدا مما تقوله القيادة السورية وحلفاؤها بحيث يركّز على العوامل الخارجية على أساس أنها سبب الحرب وليس أي شيء آخر، وهو ما ذهب اليه عددٌ قليل من الكُتّاب الغربيين قبله منذ اندلاع المواجهات في سورية قبل أكثر من 10أعوام.
عنوان الكتاب” La France et l’Otan en Syrie, le grand fourvoiement “ (فرنسا والأطلسي في سورية، التضليل الكبير). ومؤلفه ليس شخصا عاديا، حيث أنه مؤرخٌ وعضو اللجنة العلمية لمؤسسة شارل دوغول، ومستشار سابق في مركز التحليل والتوقعات التابع لوزارة الخارجية الفرنسية، وهو خريّج أعرق المعاهد الفرنسية لتخريج كوادر الدولة ENA.
في ما يلي نقلٌ لأبرز ما جاء في الكتاب حرفيا تاركين للقارئ الحكم عليه إيجابا أو سلبا:
بلغت البروباغندا (الدعاية السياسية) في القضية السورية مستوى لم تعرف مثيلا له سابقا،اعتمدت على مؤسسات أميركية معروفة منها “Psy Ops” (العمليات السيكولوجية) وهي عبارة عن عمليات مُخطّطة لاستخدام الإعلام بغية التأثير على العواطف وتعبئة الرأي العام والمؤسسات والحكومات الأجنبية لجذبها صوب الأهداف المُحدّدة سلفا. واعتمدت كذلك على “Public Diplomacy” أي المكتب التابع للبيت الأبيض والذي يتمتع بميزانية هائلة لتبرير التدخلات الأميركية وتشويه صورة الخصوم.
معظم المعلومات التي اعتمد عليها الاعلام الغربي، استندت الى المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي يُشرف عليه أحد أعضاء الإخوان المسلمين رامي عبد الرحمن بحماية الحكومة البريطانية، وحين يُجمع الرأي العام الغربي على شجب بشّار الأسد كأعتى الديكتاتورين، فهذا يعني أن خصومه يسيطرون تماما على الرأي العام، فلو كان الرئيس السوري في المحور الآخر لا شك ان صورته كانت ستُصبح مناسبة جدا كما كان الشأن بالنسبة للممالك في الجزيرة العربية. ألم يكن هذا شأن الصحافة الفرنسية التي تعاملت مع النازية في الحرب العالمية الثانية حيال ونستون تشرشل؟ ألم يكن الدكتاتور الافريقي بول كاغامي الذي ترأس رواندا لربع قرن مسؤولا عن مقتل أكثر من ربع مليون شخص وبقي صديقا للغرب ويُستقبل كشخصية مُحترمة؟
يقود نظام الأسد شعباً كبير التنوّع، وواجه حركة إسلامية عنيفة، وليس مؤكدا لو أن فرنسا واجهت تهديدا إسلاميا بما يتضمنه من جماعات إرهابية، كانت ستُحافظ على خاصيّتها الديمقراطية.
إن الحدث الأهم الذي عزّز التوجه الغربي لضرب سورية منذ العام 2003، كان في البداية اكتشافات حقول جديدة للنفط، فمنذ العام 2000 تقريبا حين تم اكتشاف حقول هائلة للغاز وهي الأهم عالميا تحت الخليج الفارسي وتتقاسمه قطر وإيران، كانت قطر تريد إقامة خط أنابيب لنقل هذا الغاز باتجاه أوروبا عبر سورية والعراق وتركيا، لكن دمشق رفضت، وربما يعود ذلك الى ان روسيا كانت تريد احتكار إيصال الغاز الى أوروبا، وبات طبيعيا ان يكون هدف أميركا كسر سورية، خصوصا مع اكتشاف حقول نفطية أخرى داخل سورية.
الهدف الثاني في عداوة الغرب لسورية، هو أهم أيضا، ويتعلّق بلعبة التحالفات. فسوريا مرتبطة منذ العام 1954 باتفاق دفاع مع روسيا، ولم يكن قد بقي غيرها كقاعدة دعم للوجود الروسي في المنطقة، فصار هدف أميركا منذ 15 عام، كسرُ الحلقة السورية وضمّ سورية الى الحلف الغربي، وقد كتب روبرت كينيدي المحامي النيويوركي وحفيد الرئيس كينيدي مقالا في مجلة Politico يقول :” إن اطاحة الأسد واستبداله بنظام قريب للغرب كان قرارا أميركيا اتًّخذ منذ العام 2009″
بما أن السياسية العَلمانية والعروبية التي تم انتهاجُها في سورية مع الدفاع عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين والعراقيين الذين استضافتهم، هي مخالفة للمصالح الأميركية، فقد اعتمدت واشنطن على الإخوان المسلمين لكونها الجماعة السياسية الوحيدة المنُظّمة والقادرة على قلب نظام الأسد.
خلف سورية، تقف إيران وحزب الله، ومنذ سنوات تعتبر إسرائيل أن تصاعد القدرات الإيرانية هي تهديد ليس فقط لهيمنتها وإنما أيضا لأمنها، وبناء على منطق المحافظين الجدد في أميركا وإسرائيل أيضا، فان الصقور الذين أحاطوا ببنيامين نتنياهو، اعتبروا ان المواجهة حتمية بين القوتين الأكبر في الإقليم أي إيران وإسرائيل، وأن إطاحة الأسد لن تحرم فقط حزب الله من قاعدة خلفية، ولكنها ستحرم إيران أيضا من قاعدة أمامية متقدّمة وقريبة من إسرائيل.
منذ العام 2011 لم تتوقف عناصر من القوات الخاصة الفرنسية عن تقديم العون للمجموعات المتمرّدة، ولم يكن الدعم الفرنسي فقط عسكريا وانما أيضا مدنيا وقد تولّى مكتب ” الوكالة الفرنسية للتنمية ” في بيروت عمليات التمويل بأوامر من الحكومة، لمشاريع في مناطق الجهاديين، وقد ارتكب الرؤساء الثلاثة ساركوزي وهولاند وماكرون مع وزراء خارجيتهم خطأ جسيما في التقدير والحكم واعمتهم الأيديولوجيا التي حجبت التاريخ الدبلوماسي العريق لفرنسا.
كانت فرنسا تحتل موقعا مميزا في الشرق الأوسط، فمنذ سان لوي وخصوصا منذ القرن السابع عشر، تم الاعتراف لها بحماية مسيحيي الشرق الأوسط، لكن منذ العام 2011، وبدلا من حمايتهم، فإنها قدّمت السلاح والتدريب لأولئك الذين كانوا يذبحون المسيحيين ويغتصبوهم ويأخذون بناتهم سبايا وعبيدا، وفي هذا المجال فإن ” المتمرّدين المعتدلين” الذين دعمتهم فرنسا، لم يكونوا أفضل من داعش. إن فرنسا وبدعمها منذ العام 2011 لأعداء مسيحيي الشرق، محت تقليدا قائما منذ 9 قرون، رغم ان هذه العلاقة الخاصة مع مسيحيي الشرق كانت التبرير الأهم لانتدابها على سورية ولبنان. وان فرنسا لم تتخل بذلك عن تراثها المسيحي وانما أيضا عن تراثها المتعلق بحقوق الانسان، وسوف يقول المؤرخون ربما يوما ما، كيف ان كارثة فرنسية كهذه كانت مُمكنة، وكيف ان بلاد ثورة 1789، ساعدت مجرمين بالسلاح أردوا سحق العلمانية وحقوق المرأة وحرية العبادات والمعتقدات في سورية.
أن أثنين من المُحللّين الدوليين المُستقلّين على الأقل (MIT و OIAC أي منظمة منع السلاح الكيماوي في لاهاي والحاصلة على جائزة نوبل للسلام عام 2013) أثبتا ان الهجمات بالكيماوي على الغوطة قامت بها جبهة النُصرة، لكن هذه الدراسة الأخيرة قد حُجبت، ولم يُعثر عليها الا من خلال تسريب وكالة فيدس التابعة للفاتيكان. ثم هل ان الرئيس السوري مجنون فعلا لكي يستخدم هكذا سلاح بعد ان هدّده أوباما بالحرب لو لجأ اليه؟
إن فشلَ الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها في الحرب السورية، يشكّل حدثا هائلا لم نُقدّر بعد كل تبعاته، فرغم كل صُراخ القادة الغربيين، ما زال الرئيس بشّار الأسد في مكانه بعد 10 سنوات من الحرب.
اليوم نرى تراجُعا ملحوظا للإرهاب، فيما الجهاديون المدعومون من الأطلسي يتقهقرون، فمن يستطيع التأكيد أن العلاقة ليس قائمة بين المسألتين.
في خاتمة الكتاب الذي يشنّ فيه الكاتب نقدا لاذعا مقرونا بالمعلومات على منظمات إنسانية وإعلامية وخصوصا على ” الخوّذ البيض” التي يعتبر انها ساعدت الارهابيين، ينشر جدولاً لكل الحروب التي شهدها الشرق الأوسط منذ العام 1945، وحصيلتها حتى اليوم ستة ملايين و430 ألفا و500 قتيل. ويقول: ” ان الحرب السورية وعلى غرار كل الحروب في الشرق الأوسط التي أثارها الغرب، لها أثرٌ يمكن ان نسمّيه بالديالكتيكي، حيث إن الإيديولوجيا التي استندت اليها كل هذه الحروب انتهت الى تدمير هذه الأيديولوجيا لنفسها”. ولذلك فان أوروبا تبقى حاجة عالمية شرط إعادة قراءة التاريخ والواقع من وجهة إنسانية ودبلوماسية لا من خلال التعبية العمياء للولايات المتحدة الأميركية او لإيديولوجيا المحافظين الجدد التي استندت الى كذبة الخير مقابل الشر.
|