روزيت الفار-عمّان خامته مرطّبة بندى الفجر، لكنه دافئ كشمس الرّبيع، مشرقٌ كصباح الصّيف وخجولٌ كحرارة الخريف وهادئٌ عابرٌ لرعود الشّتاء وبارقٌ شاقٌّ عباب غيومه. إنّه صوت "جارة الوادي" صوت فيروز.
الأيقونة الّتي امتزجت حلاوة صوتها بنكهة قهوتنا ورافقت صباحنا؛ فجعَلنا من أغانيها بدايةً لطقوس يومنا وأضحت علاقة صباحنا وفجرنا بفيروز علاقةً حتميّة لا مفرَّ منها. فصوتها صلاةٌ من زقزقاتٍ نفتتحُ به تراتيلَ الصّباح ونطرق بنغماتِه باب السّماء. حلّقنا به معها بعيداً وانساب في أرواحنا كطير الوروار في جوف السّماء لا يعرف حواجزَ ولا حدوداً ولا معوّقات. بعثت للحبيب رسائلها وطلبت من مرسال المراسيل أن"يجيب لها منه تذكاراً" مطمئنّة بأنّه سيحفظ أسرارها وخصوصيّتها بصدق وأمانة. "جاب لها عصفور الجناين سلاماً من عند الحناين ونفض جناحاته عشباك دارها".
هي "عصفورة الشّجن. صوتها يبكي. حملته بين زهر الصّمت والوهن".
إنّ المساحات الواسعة والعريضة في صوتها مكّنتها من الوصول إلى (القرار) أي الطّبقة المنخفضة من الصّوت بشكل سليم فيما تمتلك بذات الوقت (جواب) الطّبقات العالية أيضاً. وتعتبر المنافس الأوّل لكوكب الشّرق الّتي تتفوّق عليها بدرجة أو إثنتين حيث تستطيع أن تصل أمّ كلثوم إلى قرارات أعمق لكنّ فيروز تميّزت عنها بالطّبقات العالية.
لم تتجاوز فيروز بأيًّ من أغانيها العشر دقائق بل انّ معظمها لم يتجاوز 3-4 دقائق؛ ما يليق بفترة الصّباح الّذي يتبعها واجب القيام بأشغال النّهار ومهامّه.
كان للألحان الّتي رافقت أغانيها والآلات الّتي تمّ استخدامها (أهمّها البيانو) أثرٌ واضحٌ في جعل أغنياتها تتناسب والصّباح؛ فلقد عمدت المدرسة الرّحبانية انتقاء ألحان رقيقة تتناسب مع رقّة جسد فيروز وخجل وجهها دون أن يؤثّر ذلك على هيبة حضورها ورقي أدائها.
فيروز -كما وصفها محمود درويش- هي الأغنيّة الّتي تنسى أن تكبر وتجعل البحر أكبر والسّماء اصغر.
ويطول الحديث عنها لكن "أنا صار لازم ودّعكن وخبركن عنيّ؛ لأن بالآخر في وقت فراق".
وعدّا النّهار..."وأقبل الّليل" "ونجومه وقمره، قمره وسهره، وانت وأنا يا حبيبي أنا"
نعم إنّها "السّت" أُمّ كلثوم. ارتبط المعنى المجتمعي لكلمة "السّت" بالإجلال والمثاليّة والطّهارة ورأى فيه البعض القوّة والحريّة والتّمرّد أكثر من تعبيرٍ عن الأنوثة. الصّوت القويّ العنيد الّذي لا يتوقّف جريانه. متدفّقٌ كمياه النّيل وعذبٌ كعذوبته.
استضافه كلُّ بيت عربيّ، وأقاموه في صالاتهم ومقاهيهم بعد غروب كلّ شمس وفي مساءات كلّ خميس عبر أثير معظم إذاعاتهم. آنس وِحدةَ كلِّ عاشقٍ وحنينه واشتياقه فأوصله هذا الصّوت بقارب ينساب في بحر ألحانِه لقِبلةِ روحِه واشتياقه وأجاب عن سؤاله: " أغداً ألقاك؟ يا خوف فؤادي من غدي."
امتلكَ صوتُها مساحاتٍ عريضة منخفضة قلّما امتلكته أصواتُ نساء؛ فزادت مساحة جماليّته وتضاعف تأثيره على آذان كلّ من استمع له.
دعاه البعض بأنّه صوت السّماء في الأرض" فبكى على لحنِه كثير من الرّجال ومسحوا أعينهم بظلمة الّليل سرّاً. منهم من تعانق، وآخر من ودَّع وغيرهم من رسم أحلامه عليه في "هذه ليلتي وحلم حياتي" وقال: " الهوى كلُّه أنت والأماني...فاملأ الكأس بالغرام وهاتِ". وهل تشرب الكأسُ في الصّباح؟
هناك العديد من أغاني أم كلثوم الّتي التصقت بالّليل وبعذاب الحبّ للأحباب فوصفته السّت بأنّه"أمرّ عذاب وأحلى عذاب".
كانت تغنّي لساعات طويلة دون تعب معتمدة بذلك على انسجام الكلمة المغنّاة-والّتي بأغلبها كانت لكبار الشّعراء والمؤلّفين-ومشاعر الجمهور المُتابع وانفعالاته. وقد أثبت صوتها بأنّه الأكثر انطباقاً على السّلّم الموسيقي بين جميع أصوات المطربين العرب فغنّت أصعب الأغاني بأريحيّة ومرونة كاملتين جعلاها لا تُعير للميكروفون اعتباراً؛ فكانت هي من تدير الفرقة الموسيقيّة بغنائها وليس العكس ،بالرّغم من ضخامة الآلات المستخدمة كالتّشيللو والسّكسافون والجيتار الكهربائي الّتي تليق بطبيعة صوتها العريض والطّرب الّليليّ.
لم تقل شعبيّة أمّ كلثوم عن شعبيّة عبد النّاصر فكانت الوحيدة الّتي استطاعت جمع تبرعات لأكبر وأهم مؤسّسة بمصر وهي مؤسّسة الجيش.
قال شارل ديغول: "لقد لمست أمّ كلثوم أحاسيسَ قلبي وقلوب الفرنسيّين جميعهم". وعنها محمود العقّاد قال: "لقد أثبتت أمّ كلثوم أنّ الغناءَ هو من العقول والقلوب وليس فقط من الحناجر والّلسان.
تركت أمّ كلثوم لفيروز كامل أغاني الصّباح؛ لكنّها أبت أن تترك مسرح الّليل -الّذي اعتادت أن تحتلّه حتّى ساعات الفجر- دون أن ترسل لأرزة لبنان تحيّة الصّباح بأغنيتها "يا صباح الخير يالّلي معانا".
لم تنحصر أغاني فيروز بالصّباح بل شكّل بثّ الإذاعات لأغانيها في الفترة الصّباحيّة سبباً رئيسيّاً؛ خلق لدينا عادة سماعها بالصّباح. فهي غنّت أيضاً للّيل الّذي قالت عنه "الّليل مش للّنوم أصل الّليل للسهر" وكذلك للوطن الكبير والصّغير والبحر والسّماء...الخ
فيروز وأمّ كلثوم، ظاهرتان وقامتان فنّيتان عربيّتان تشكّلان تراثاً ثقافيّاً خالداً تشبُّ وتشيب عليه جميع الأجيال.هما نورنا ودفئنا في يومنا، إحداهما تُشرق في الصباح ليصبح أبهى، والثانية تنير ليالي العشق والحب والنضال.
|