لم يقبل الرحيل.. أبى إلا أن يبق .قال لأسعد كنج, قائد ثورة الإقليم, بعد أن ألح عليه الأخير بالانضمام إلى الركب الهارب من الحصار ..أنا ولدت في هذه البلدة ولن أرضى إلا أن ادفن بها.هل تضمن لي أن لا أموت في غير ارضي؟؟أجابه اسعد كنج .أبدا لا.وركع أمامه وقبله بلحيته التسعينية, ووضع في جناده سبعة عشر رصاصة .وودعه ليتركه هو ومجدل شمس وحيدين يتحديان حصار الحملة الفرنسية ...
...هدأ قصف المدافع عند آخر المساء.وحتى الطائرات أنهت غاراتها الجوية على القرية المحاصرة منذ سبعة أيام.أوى الضابط الفرنسي إلى خيمته في سهل اليعفوري يخطط ليوم آخر من استنزاف الثوار وإيجاد ثغرة في التحصينات العنيدة, لاقتحام القرية. التي تجمع فيها نخبة من الثوار والتجأ إليها سكان القرى المجاورة .. ...قرار الثوار بالانسحاب كان إجباريا.ولا مفر منه.نفذت منهم الذخيرة والمئونة أيضا.ولم يبق ما يحاربون فيه غير إرادتهم والشهادة..لكن انتقام الحملة الفرنسية على الأبواب ,ولن يسلموا أرواحهم وأرواح نسائهم وأطفالهم رخيصة للمستعمر..
...سدت كل المنافذ .والحملة الفرنسية حاصرت القرية من الأربع جهات .وسلطان باشا لم تصله بعد أخبار المعركة..فكانت وجهة الثوار إلى جبل العرب للنجاة بمن بقي حيا وطلب النجدة.
...شدت الأحمال والجرحى والأطفال على الدواب. والنساء تزنرن بالخناجر. .والرجال والفرسان ضربوا طوقا فولاذيا حول الركب, بالسيوف وباقي البنادق.وحط صمت وليل ثقيلين على الألم النازف من المآقي.وانتظروا جميعا الإشارة..
...سمع الشيخ يوسف عماشة , الذي بقي وحده بالقرية, بداية إطلاق النار قبل طلوع الفجر, من منطقة المغيسل فوق راس النبع.فعرف أن الثوار اشتبكوا مع الفرنسيين لفتح ثغرة بالحصار.فبدأ يدعي ويتضرع إلى الله بان يعينهم وينجيهم.وبعد دقائق صمت أزيز الرصاص وحل الهدوء ثانية .فارتسمت على محيا الشيخ ابتسامة واثقة لعلمه أن الركب نجح باختراق الحصار, فهدأت روحة, وبدأ يحضر نفسه للشهادة..
....غضب الضابط الفرنسي لم يطفئه في الصباح إلا قراره بدخول القرية الخاوية وإحراقها كلها حتى لا تبقى صالحة للسكن..فأمر بتجميع جنوده والياته في البيادر ليتحضروا للانتقام من الحجر والشجر..
...ركع خلف شباك بيته.وصوب من زاويته البندقية, نحو سهل القمح الذي افترشه طغاة لا يقيمون وزنا ولا احتراما لهذه الأم التي تطعمنا..شد الأخمص الخشبي إلى كتفه وقال.... يا الله.....
....دب الرعب في قلب الضابط المرهق من أول رصاصة وأول قتيل.وظن أن الثوار خدعوه مرة أخرى وأوقعوه في كمين آخر.والفوضى انتشرت بين الجنود.والشيخ التسعيني يوسف كان يرمي في كل طلقة واحدا آخر.لم يقبل بان تترك رصاصاته جرحى .كانت إن أخطأت القلب تصيب الرأس.وكان بين كل رصاصة وأخرى, تمر من أمام عينيه صور رفاقه الذين استشهدوا في زمن مقاومة الأتراك.كانت ضحكاتهم تصدح في أذنيه بدل أزيز الرصاص الذي أمطروه به الفرنسيين.
...بعد القتيل العاشر حددوا مكانه, واستفاقوا من الصدمة .فبدؤوا بالتقدم نحوه.كانت حجارة منزله تصد ما استطاعت من رصاص لتحميه .وشباكه يضيق في عيونهم فيخطئوه,, ويتسع في وجهه, فيصطادهم كيفما يشاء..
نفذت الرصاصات بعدما أردى سبعة عشر قتيلا..والطوق حول منزله اكتمل..فمسح لحيته ورمى على كتفيه عباءته. وجلس في زاوية الغرفة ليبدأ بقراءة الفاتحة.وكأن لا عالم من حوله يغلي ويمور جالبا له الموت.
...خافوا من اقتحام الباب ,أو الاقتراب من الشبابيك .معتقدين أن البيت فيه عشرات الثوار.فتحوا في السقف الترابي للبيت روزنة(فتحة) والقوا نحو المجاهد العنيد قنابلهم..استشهد وهو جالس. وشبت النيران في المنزل حتى جاورته فانطفأت.وبقيت تسند ظهره صخرة في الحائط ,بنى عليها جده بيته.
...وجدوه بعد أن عادوا من هربهم جالسا..تحضنه زاوية بيته..دفنوه أمام منزله ويمر فوق قبره اليوم شارع, يقطع البيادر من غربه إلى شرقه..لم نسمي الشارع باسمه.ولم نكنس من على سهله بعد. الاحتلال الآخر...
|