“لا شيءَ أخطرَ من محاولةِ قطع حبل السُّرة الذي يربطُ الإنسان بلُغتِه. فإذا انقطع هذا الحبل أو تعرّض للاهتزاز، سرعان ما انعكس ذلك بشكلٍ شديد السلبيّة على الشخصية. ”كذلك وصف أمين معلوف علاقة الإنسان بلُغتهِ، في كِتابِه الهويّات القاتلة.
الهيمنة اللُّغوية في ظلّ العولمة تُشكّلُ اللُّغةُ عُنصراً أساسيّاً في تكوين الأفرادِ والمجتمعات، إذ تُمثِّلُ أداةَ التَّعبيرِعن هُويَّة الناطقين بها وتحملُ ثقافتَهم. إلّا أن ظاهرةَ الهيمنة اللُّغوية والمُثاقفة تُهدِّدان مصير اللُّغاتِ الحيَّة على المدَيَيْن المتوسّط والبَعيد، إنْ لم تُبذل الجهود اللَّازمة لحمايتها من التَّراجع والرُّكود، وهذه إحدى أعقد إشكاليّات العولَمة (أو الأمركة، على الأدقّ).
ففي ظِلِّ طُغيان اللُّغة الإنجليزية المعاصِرة على مُنافِساتها، كلغةٍ دوليَّةٍ أولى )أي عبر الاستخدام والتبادل الدوليين وليس عدد الناطقين بها) ، تقفُ اللُّغاتُ العريقة في وجهِ هذه الهيمنة، من خلالِ مؤسساتٍ مُتخصّصة ومنهجيَّاتٍ مدروسة، يُشهَدُ لها على الأقل بشرف محاولة الحفاظ على عنصر تراثها الثقافي الأول: العنصر الناطق باسم حضاراتِها. وعلى الرَّغم من استيعاب اللُّغة الانجليزية وتدريسها، تفصلُ الشعوبُ "الفخورة بلغاتها" بين الواقع الرَّاهن وعزة الهويَّة الثَّقافيَّة واللُّغوية، ساعيةً، في الوقتِ نفسه، إلى تطوير لغاتِها وإثرائها اصطلاحيًّا، من خلال إصلاحات بنيويَّة وإصداراتٍ معجميَّة جديدة، تواكبُ مُتطلُّبات العصرِ. ومِن ثَمَّ تُبنى العلاقة التَّبادليَّة بينَ اللُّغةِ وذات النَّاطقين بها.
هلِ اللُّغةُ مرآةُ الثقافة ؟ تحملُ اللُّغة سماتِ الثَّقافة المرتبطة بها، فهي تعكس عقليَّات الشعوب وتاريخها بما تنطوي عليه من عراقة ورقيّ، من منطق أو عدم منطق، من نعومةٍ أو صرامة، من سهولة نحويَّة أو عمق بنيوي. فنرى مثلا في اللغة الألمانية (جرمانيَّة الأصل) عقلية الناطقين بها ومنهجهم الآلي. ونرى في كلٍّ منَ اللُّغاتِ المشتقَّة عن اللاتينيَّة خصوصيَّةً ثقافيّة، فنجدُ في الفرنسيَّة توجُّهَ الفرنسيّين وهواجسَهم الجماليّة في كل تفصيل. كذلك الإسبانية والإيطالية، اللَّتان تعكسان روح السَّاحلِ ودفءَ المتوسِّط. وبين بريطانيا وأميركا، خانت إنجليزية شكسبير ذاتها، وهاجرت لتلبية متطلَّبات العَصر، حتَّى أصبح لهذه اللُّغةِ واقعٌ جديدٌ، منفصلٌ عن تاريخه، يتَّسمُ بطابعٍ عمليٍّ وجاهزيّة مرنة أمام الإنشاء الاصطلاحيّ.
وإذا كانت اللُّغة مرآةً للثقافةِ وعقليَّةِ الشُّعوب، فعلى العقل العربي أن يكون الأَكثرَ منطقيَّةً والأغنى فكراً. أين لغتنا العربيَّة وسطَ زخم صراعِ الُّلغاتِ هذا لإثبات وجودها أمام هيمنة الإنجليزيّة؟ هل هَرمَت هذهِ المرآةُ أم أنّ أحدًا لم يَعُد يرى نَفسه فيها؟
وَضعُ اللُّغة العربيّة الرَّاهن يقول جبران خليل جبران في مقالة "مستقبل اللغة العربية"[1]: "إنّما اللُّغة مظهرٌ من مظاهِر الابتكار في مجموع الأمّة، أو ذاتها العامّة، فإذا هجعَت قُوَّة الابتكار توقَّفت اللُّغة عن مسيرها، وفي الوقوفِ التقهقُرُ وفي التقهقُر الموتُ والاندثار". والحقُّ أنّ لغتنا العربيّة تشهَدُ واقعًا أكثر تعقيدًا من غيرها، نظرًا لخصوصية البلدان الناطقة بها على كافّة الأصعدة، ويكادُ ركودُ اللُّغة العربية وتقوقعُها يكونا جزءًا ممّا يسمى سياسيًّا بـ"الاستثناء العربي".
في ظلّ غياب التخطيط اللُّغوي وتطوير الجهاز الاصطلاحي، ورغمَ جهود مجامع اللُّغة العربيّة سابقًا، إلّا أنّ المشكلة تكمن في نقصِ اللِّجان المتخصّصة في هذه المجامع، وذلك في عدّة مجالات تُظهر حاجةً إلى تسميةِ الظواهرِ الجديدةِ ومكوِّنات الحداثة، التي تتكاثرُ بالاطِّرادِ مع تسارُعِ التقدّم المعرفي والتكنولوجي. فالشعوبُ العربيّة إنّما تستهلِك المعرفة ومُنجَزات التقدّم العلمي، ولا تُنتِج شيئاً منها. لذا تكتفي بموقف المُتلقِّي السلبي. وهذا يصرِف الباحثين والعُلماء عن اللغة العربية نحوَ اللغات الأجنبية، نظرًا إلى قلة المراجع العلميَّة المتوفّرة بها، ممّا دفعَ فريقًا من النخب العربية إلى المُناداة بـ "قطيعة" مع اللُّغة العربية وإعادة بناء الأجيال المتعلِّمة بلغاتِ الأمم المتقدمة[2]. ولا شكّ في أنّ هذا الشَّلل يعود إلى ما سمّاه الناقِد السوريُّ هاشم صالح بـ"الانسداد التّاريخي"، وصفًا للمأزق الذي تمرّ به البلدان العربيّة من تخلُّف حضاري وتحجّر فكري. وذلك يذّكرنا بمناظرة المستشرقErnest Renan والدّاعية الإسلامي جمال الدّين الأفغاني حول العلم والعرب واللغة العربيّة، إذ يرى Renan أن تخلف الشعوب العربية يعود إلى التعصّب والتشدّد الدينيين وإلى اعتقاد المسلمين بامتلاكهم الحقيقة المطلقة، فليسوا بحاجة إلى البحث والفكر، وأن اللُّغة العربية لا تتناسب مع الفلسفة والميتافيزيقيا. ورغم تصدي جمال الدين الأفغاني لما أفاد به Renan حول العرب الذين تفوقوا حضاريًّاً واستوعبوا علوم فارس والإغريق، شرحًا وصياغةً باللُّغة العربيَّة، إلَّا أنه ربط تراجع الحضارة بالعقيدة الإسلاميَّة، التي خنقت العلوم وكانت وسيلةً من وسائلِ الاستبداد. في هذا الصّدد، يشير الدكتور صلاح الدين يونس في كتاب العربيّة وظواهر المعرفة إلى أنَّ اللُّغة العربيّة لم تكن لغةً وحسب، وإنَّما استحالت إلى هوية داخليّة كالعقيدة، لا تقبل المساس أو النظر من خارج العقيدة، ومع التقدُّم العلميّ، بدأت مشكلةُ اللّغة تظهر من زاوية اخرى، ألا وهيَ الإحساس بالفقر العلميّ، على المستوى التقني، لاسيما في العلوم الدقيقة.
في ظلّ التردي الحضاري هذا والاضمحلال اللُّغوي الذي يلحق به، غدا العرب خارج التاريخ الحديث، كما وصف حالهم المفكر محمد أركون. ومع هذه المعطيات، تغيَّرت معالمُ الهوية، بعدما شهدت فترة من التمسك باللغة كرمز للهوية القومية خلال سنوات الاحتلال، لتتقوقع بدورها، أو تتماهى مع هويّاتٍ أكثر تطورًا. فلم تعد اللُّغة العربيَّة مصدرَ اعتزازٍ للناطقين بها، لا بل على العكس، أصبح شبابُ اليوم يلجأ إلى اللُّغات الأجنبية ويستعير مفرداتٍ منها، حتى لو لم يكن يتقنْها، ليعطي لنفسه طابعًا أكثرَ حداثةً وعصريَّةً.
استنهاض اللُّغة لإحياء الهويّة تميَّزت نهايةُ القرنِ التَّاسعِ عَشَر وبدايةُ القرنِ العشرين بحركةٍ ثقافيَّةٍ تنويريَّة في العالم العربيّ: عصر النهضة الأدبيّة والشعريّة واللُّغويَّة، مع أوَّل بعثة أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا، بإشراف الشيخ رفّاعة رافِع الطهطاوي، صاحِب أوّل مشروع تنويري في البلاد العربية. فانطلاقاً من هذا المشروع، دعا مُفكِّرو النهضة العربية الحديثة إلى تحرُّر المرأة، والفصلِ بين الدّين والدَّولة والتَّجديدِ في فهمِ الدِّين والحياة. وكان لا بُدّ لهذه الدعوة من أن تتلازم مع إحياء اللغة العربية وتجديدها. وذلك بتحريرها من القوالب الجامدة التي قيّدت تطوُّرها عِدّة قرونٍ. ومن أجل هذا، نشطت حركة التَّرجمة والتَّعريب، وتأسَّست مجامع اللُّغة العربيَّة على غِرار الأكاديمية الفرنسية. وكان من أهم رواد النَّهضة اللُّغوية، الأديب الساخِر أحمد فارس شدياق، الذي دعا إلى تحديث اللُّغة وإثراء مفرداتها عن طريق الإِنشاء الاصطلاحي (كالاشتقاق، والمجاز والنحت، الخ.)، ناقدًا المعاجمَ السائدة آنذاك والتي لم تكن، في رأيه، تسير على نَهج التَّطوُّرِ والحداثة.
ولعلّ حركةً كهذه، لا تنتمي إلى تاريخِ بعيدِ في الحقيقة، تعطي بصيصَ أملٍ لاستعادةِ ألقِ اللُّغة العربيَّةِ واستنهاض الحركةِ الثقافيَّة التي بدأت بالرُّكود مع نشأة الدَّولة القطرية وأنظمة الحزب الواحد. عَلى اللُّغة العربيّة أن تبحثَ في خصائِصها التي تتَّسمُ بخصائص قابلة للتحديث ومواكبة العصر، لاسيَّما خاصَّة الاشتقاق. وعلى المجامع اللُّغويَّة وهيئاتِ التَّنسيق أن تَعمل على توحيدِ جهودها لإعادةِ الحيويَّة إلى اللُّغة العربية، على غرار خطوة تعريب مصطلحات الطِّبّ وتعليمه باللُّغة العربيّة في سوريا، وهو البلد الوحيد الذي يدرّسُ الطبَّ باللُّغة العربيَّة. هذه اللُّغة التي تتميَّزُ بعراقتها وقِدمها التاريخي. ولا ننسى أنَّ القرآن الكريم ساهم بشكلٍ أساسيّ بالحفاظ على استمراريّتها وبلاغتها، بالإضافة إلى الشّعر العربيّ القديم الذي لا يزال يشكّلُ جزءًا كبيرًا من ثقافة العرب (على الأقلّ لجيلِ آبائنا وأجدادنا). ومن اللّافتِ أن يفهم أبناء العربية اليوم ألفاظاً كثيرةً استخدمها شُعراء عربٌ منذ القرن الثاني قبل الإسلام، وهم قادرونَ على فهمِها وشرحِها وإلقائها.
إذاً يتوقَّف مُستقبَل اللغة العربيَّة، كما يستنتِج جُبران خليل جبران في مقالته المذكورة أعلاه، على مُستقبل الفِكر المُبدِع الكائن ـ أو غير الكائن ـ في مجموع الأُمَم التي تتكلَّم اللُّغة العربية. ولعلّ العملَ على إحياء اللُّغة العربيَّة يعيدُ الاعتزاز بالهويَّة اللُّغوية، هذه اللُّغة التي سحرت المستشرقين والمستعربين، حيث تصِفُها المستشرقة الألمانية "زغريد هونكه" Sigrid Hunke: "كيفَ يمكنُ للإنسانِ أن يقاوم جمالَ هذه اللُّغة ومنطقَها وإبهارَها الفريد؟ حتَّى جيران العربِ أنفسهم، في البلدان التي احتلوها، سحرتهُم هذه اللُّغة". وهكذا وصفهاRenan ذاته: "أغرب ما حدث في تاريخ البشريَّة هو انتشارُ اللُّغة العربيَّة. في الواقع، لم تكن العربيَّة معروفةً، وشهدت فجأة رواجًا كاملاً وواسعًا. هذه اللُّغة ليس لها طفولة ولا شيخوخة، لقد تجاوزت شقيقاتِها بغنى مفرداتها ودقة مصطلحاتها وبنيويَّتها وهيكليَّتها".
|