تشهد إسرائيل، يوم غدٍ الثلاثاء، عملية انتخابية هي الرابعة خلال سنتَين، سرعان ما بدأ الحديث، حتى قبل انطلاقها، عن إمكانية التوجُّه إلى انتخابات خامسة. يعود ذلك إلى أن لا توقُّعات حاسمة بقدرة بنيامين نتنياهو، على رغم نجاحه في تهشيم قوة خصومه، في نيل أغلبية مريحة تُمكّنه من تشكيل حكومة برئاسته. مع هذا، يمكن القول إن السيناريوات الأكثر إقلاقاً للرجل باتت وراءه، ليظلّ هو قائداً لمعسكر اليمين، فيما سيبقى الأخير بدوره مهيمناً على الحياة السياسية لفترات طويلة مقبلة
للمرّة الرابعة خلال سنتين، تشهد إسرائيل انتخابات عامّة، لعلّ أبرز ما يُميّزها أن التنافس الرئيس فيها يتمحور حول شخص بنيامين نتنياهو، بين مَن يؤيّده رئيساً للحكومة وبين من هو ضدّه. وعلى هامش هذا العنوان، تتوزّع الانقسامات والتحالفات، التي تتغذّى بعناوين واختلافات أخرى. يتجلّى ذلك في عدّة أمثلة من بينها: أن جدعون ساعر الذي انشق عن حزب «الليكود» وشَكّل حزب «أمل جديد» كان هدفه إسقاط نتنياهو؛ وأن مشكلة زعيم حزب «إسرائيل بيتنا»، أفيغدور ليبرمان، مع أيّ حكومة يمينية تَتمثّل في كون نتنياهو رئيسها (إضافة إلى خلافه مع الأحزاب الحريدية)؛ وأن التكتُّل الذي تَشكّل في الانتخابات السابقة باسم «أزرق أبيض» تجمَّعت أحزابه المتباعدة والمتنافسة تحت شعار إسقاط نتنياهو؛ وأن رئيس كتلة «يمينا»، نفتالي بينت، يسعى هو الآخر إلى إسقاط نتنياهو (من دون أن ينفي ذلك إمكانية الالتحاق به لاحقاً). في المقابل، نجح رئيس الوزراء الحالي في أن يُقنع شرائح واسعة من الرأي العام اليميني بوجود ارتباط عضوي بين بقائه في رئاسة الحكومة وبين استمرار حكم اليمين، مُحوِّلاً بذلك قضيّته الشخصية إلى قضية تيّار فكري سياسي.
وتجري الانتخابات وسط بيئة إقليمية ودولية تشهد تحوُّلات سيكون لها أثرها المباشر على مجمل الوضع في المنطقة، بما فيها كيان العدو. إلا أن العامل الداخلي يظلّ الأكثر تأثيراً في توجُّهات الناخب الإسرائيلي بالنظر إلى عدّة عوامل على رأسها التداعيات التي خلّفها انتشار جائحة «كورونا» على المستويَين الصحّي والاقتصادي، ووجود انقسام جدّي حول أهلية نتنياهو المتّهم بالفساد والرشوى للاستمرار في الحكم، فضلاً عن ضيق هامش الاختلافات بين القوى الرئيسة حول القضايا الخارجية، من الملفّ النووي الإيراني، مروراً بملفَّي سوريا وحزب الله، وصولاً إلى الوضع في قطاع غزة والضفّة الغربية المحتلّة، خاصة بعدما لم تَعُد «صفقة القرن» ضمن مساحة التجاذب. ويُسجّل لنتنياهو أنه حَقّق أكثر من إنجاز في مرحلة ما قبل يوم الانتخابات. إذ استطاع توحيد قوى دينية متطرّفة تفادياً لخسارة عشرات آلاف الأصوات التي يأمل أن تُعزّز فرصه في تشكيل الحكومة. كما نجح في تحويل ائتلاف «أزرق أبيض» إلى أشلاء، والأمر نفسه انسحب على «القائمة العربية المشتركة» التي انقسمت إلى كتلتَين، وهذان الطرفان تُظهر استطلاعات الرأي تراجُع تمثيلهما في «الكنيست» المقبل. أمّا الإنجاز الأهمّ الذي يراهن نتنياهو على مفاعيله لدى الناخبين، فيتمثّل في نجاح خطّته لتلقيح أكثر من 4,2 مليون شخص بجرعتين، يُضافَ إليهم أكثر من مليون تلقّوا جرعة واحدة. ونتيجة ذلك، استمرّ المنحى التراجعي في نسبة النتائج الموجبة إلى مجمل الفحوصات، حتى وصل إلى حدّ 1.9%. وهو ما يأمل زعيم «الليكود» أن يُغطّي على تهم الفساد المُوجّهة إليه. وفي الإطار نفسه، يستعين نتنياهو، أيضاً، باتفاقات التطبيع التي أبرمها مع عدد من الدول العربية، مُستغلّاً إيّاها في التلويح بعمليات تطبيع لاحقة مع دول أخرى من ضِمنها السعودية. ولا تغيب عنه، بالطبع، اللعبة المُحبّبة لديه، والمُتمثّلة في تصوير نفسه على أنه الأكثر كفاءة - في مقابل منافسيه - في إدارة الصراع مع تهديد محور المقاومة الذي تقوده إيران. عشية الانتخابات، بات واضحاً أن السيناريو الذي خَشِيه نتنياهو، والمتمثّل في تَشكُّل تكتُّل يميني يمثّل ندّاً له ويهدّد فرصه في رئاسة الحكومة، أصبح وراءه. فبَعد الذروة التي بلغها رئيس «أمل جديد»، تراجَعت مكانته، بحسب استطلاعات الرأي، من 22 مقعداً إلى ما بين 9 و10 مقاعد، وتراجَع معها طموحه من الإطاحة بنتنياهو إلى محاولة منعه من نيل أغلبية 61 عضو «كنيست»، كما أعلن ساعر بنفسه. كذلك، لم تُظهر الاستطلاعات إمكانية تشكيل كتلة من الأحزاب اليهودية المعارِضة لنتنياهو، باستثناء كتلة «يمينا»، التي يُرجَّح، في لحظة الاختبار، أن لا تتحمَّل مسؤولية الحؤول دون تشكيل حكومة يمينية، واستبدال حكومة تشترك فيها أحزاب يمينية مع أخرى يسارية مثل «ميرتس» و«العمل» بها.
معسكر اليمين هو المهيمن على «الكنيست» وسيبقى كذلك لفترات طويلة لأسباب ديمغرافية أيضاً
بناءً عليه، يمكن القول إن سيناريو تشكيل حكومة برئاسة أحد منافسي نتنياهو، وبالاستناد إلى الأصوات العربية في «الكنيست»، مستبعد جدّاً. كان ذلك ممكناً، من الناحيتَين العددية والقانونية، في أعقاب العمليات الانتخابية الثلاث الماضية، إلا أن أحداً من خصوم نتنياهو لم يجرؤ على المضيّ في هذا الخيار، على رغم بدئهم خطوات استكشافية في اتّجاهه. ويعود امتناعهم إلى أن خياراً كهذا سيُفقدهم المشروعية اليهودية، وهو أمر لا يتحمّله المجتمع الصهيوني العنصري. في المقابل، تتراوح السيناريوات البديلة بين حكومة يترأّسها نتنياهو، أو استمرار الشلل والتعطيل المتبادل وصولاً إلى التدحُرج نحو انتخابات خامسة. في كلّ الأحوال، الواضح حتى الآن أن جزءاً كبيراً من جمهور معسكر اليمين لا يزال يلتفّ حول قيادة نتنياهو، الأمر الذي يوفّر له الغطاء الشعبي والسياسي إمّا لتعطيل «الكنيست» والحكومة أو للتفاوُض مِن موقع مَن يملي الشروط. الحقيقة التي لا لبس فيها أن نتائج الانتخابات الثلاث الأخيرة، واستطلاعات الرأي للانتخابات المقبلة، تؤكّد، بكلّ المعايير، أن معسكر اليمين هو المهيمن على «الكنيست»، وسيبقى كذلك لفترات طويلة لأسباب ديمغرافية أيضاً. ويعني هذا أن الانتخابات تجري عملياً داخل معسكر اليمين نفسه. واللافت فيها، هذه المرّة، أنه قبل إجرائها بدأ الحديث عن إمكانية خوض انتخابات خامسة، ستُكرّس إذا ما تَحقّقت القاعدة التي أرادها نتنياهو: «إمّا أنا أو انتخابات مفتوحة».
|