في ظلّ عدم تحديد موعد للقاء مباشر بين الرئيسين التركي والروسي، وهو ما يُعدّ بحدّ ذاته مؤشراً سلبياً، ووسط المراوحة في المواقف مع اقتراب نهاية شباط/ فبراير، المهلة التي حدّدها رجب طيب إردوغان لانسحاب الجيش السوري من المواقع التي حرّرها أخيراً تحت طائلة عمل عسكري كبير ضدّ دمشق، كيف يمكن فهم هذا الإصرار التركي على الاحتفاظ بإدلب، وعدم القبول بأيّ تغييرات في خريطة النفوذ الجغرافية، والتهديد بالقيام بعملية عسكرية شاملة؟
لم يسفر الاتصال الهاتفي بين الرئيسين، التركي رجب طيب إردوغان، والروسي فلاديمير بوتين، مساء أمس، عن نتيجة ملموسة لتهدئة الوضع في إدلب. فبيان الرئاسة التركية ركّز على قول إردوغان لبوتين إن الحلّ في إدلب يبدأ بكبح جماح النظام، ووقف الأزمة الإنسانية، والتطبيق الكامل لـ«اتفاقية سوتشي»، لافتاً إلى أن الرئيسين أكدا التزامهما التطبيق الكامل للاتفاقيات المعقودة بينهما. أما بيان الكرملين، فأشار إلى أن بوتين أعرب عن بالغ قلقه من الأعمال العدوانية للجماعة المتطرّفة، مشدداً على ضرورة احترام سيادة سوريا ووحدتها، مشيراً إلى أن الجانبين اتفقا على مضاعفة التواصل والتشاور، ولا سيما عبر القنوات العسكرية.
تختزن إدلب العدد الأكبر من المسلّحين المعارضين للنظام السوري، والذين تتعدّد انتماءاتهم الفكرية وولاءاتهم السياسية، وهم مصنّفون بين معتدلين وإرهابيين، وعلى رأسهم «هيئة تحرير الشام» («جبهة النصرة» سابقاً). لكن المظلّة الأساسية لكلّ هؤلاء تبقى تركيا، التي هي شريان بقائهم الوحيد. ويُقدّر عدد المسلحين بحوالى 70 ألفاً، وهؤلاء تريد أنقرة الاحتفاظ بهم كونهم ذراعاً أساسية لمخطّطاتها في عدد كبير من القضايا والملفات. وعلى الرغم من تقدّم الجيش السوري، وتحريره جانبَي طريق «M5» الواصلة بين دمشق وحلب، في انتظار استكمال تحرير جانبَي طريق «M4» الواصلة بين اللاذقية وحلب، ووجود أكثر من 4 نقاط مراقبة تركية ضمن منطقة سيطرة الجيش السوري، فإن تركيا مصرّة على عدم إخلاء نقاط المراقبة المحاصرة، بل إنهاء تطالب بانسحاب الجيش السوري إلى الخطّ الذي كان فيه قبل تحرير معرّة النعمان وسراقب وغيرهما. وأرفقت تهديداتها تلك بحشود عسكرية كبيرة معزّزة بالأسلحة الثقيلة مثل الدبابات والصواريخ. كما أعلن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، أنه مستعدّ للموت من أجل الاحتفاظ بإدلب. وهو لا يرى في هؤلاء المصنّفين إرهابيين (حتى وفق لائحة الإرهاب التركية) سوى «مقاومين يدافعون عن أرضهم».
ما لم يرتكب إردوغان «حماقة كبيرة»، يندرج جانب من تهديداته في خانة التهويل وممارسة سياسة حافة الهاوية والتصعيد المدروس، ربطاً بحال محدّدة وهو الضغط على روسيا، وسوريا أيضاً، لتخفيض سقفهما من التصعيد الأخير والاكتفاء بما تَحقّق، مع اعتراف روسي مقابل ببقاء الجيش التركي مباشرة هذه المرّة في ما تبقى من إدلب. ومع أن إردوغان وفريقه السياسي رحّبا بالدعم الأميركي لتركيا، وأعلنا أن الولايات المتحدة قد تزوّد بلادهما بصواريخ «باتريوت»، فإن إردوغان يدرك أن أيّ مواجهة مع روسيا في سوريا ليست لصالح تركيا (وخصوصاً مع غياب حرية الحركة الجوية للطائرات التركية)، وهي في صالح واشنطن التي لا تزال تفرض عقوبات قاسية عسكرية واقتصادية على أنقرة، ولا تبدو مستعدّة لمدّ حبل النجاة إليها إلا بالمواقف اللفظية. دخول إردوغان في حرب مفتوحة مع روسيا أو سوريا سيجعله فريسة سهلة لواشنطن التي تنتظر وقوعه، وفي حال وجد أنه سيذهب إلى الفخّ الأميركي فإنه سيقبل مرغماً بتفاهمات جديدة في إدلب مع روسيا.
مع ذلك، فإن إردوغان لا يطلق تهديداته انطلاقاً من التهويل أو ممارسة سياسة حافة الهاوية فقط. فالعقل السياسي والفكري لحزب «العدالة والتنمية»، ولإردوغان تحديداً، يتحرّك وفقاً لثوابت يجب أن تؤخذ بعدم الاستخفاف، بل بكلّ الجدّية التي تفرض مقاربة مختلفة لطبيعة الحركة التركية السياسية والميدانية:
1- لم يتغيّر موقف إردوغان لحظة عما كان عليه مع بدء الأزمة في سوريا، لجهة رفض الاعتراف بالنظام ورأسه بشار الأسد، والدعوة، بل والعمل أيضاً على إسقاطه. وبات هذا الأمر «عقدة» شخصية تتجاوز أحياناً التطلّعات البعيدة، حتى إن إردوغان أعلن قبل فترة أنه ليس فقط لا يعترف بالنظام بل لا يعترف بالدولة السورية نفسها.
2- يعتقد إردوغان أن الاحتفاظ بإدلب هو احتفاظ باحتياطي من عشرات الآلاف من المسلحين، ليشكّلوا باستمرار إرباكاً وضغطاً على الدولة السورية، بحيث لا يدعها ترتاح وتلتقط أنفاسها، ما يتيح استمرار احتفاظ تركيا بإدلب أطول فترة ممكنة وربما للأبد.
وما يعكس رغبة الاحتفاظ بإدلب والمسلحين هو أنه عندما بدأ تنفيذ «اتفاق سوتشي» مع روسيا في أيلول 2018، لم تُنفذ منه تركيا سوى تثبيت نقاط مراقبة، تمّ اختيار أماكنها بالتنسيق العلني مع مقاتلي «جبهة النصرة» الذين كانوا، وأمام وسائل الإعلام، بمعية الضباط الأتراك، فيما لم تعمل أنقرة على تصفية التنظيمات الإرهابية كما وعدت.
3- إلى إبقاء إدلب شوكة في خاصرة النظام والدولة، فإن تركيا ليست على استعداد لتسليم إدلب ومنطقتها سلماً. وفي ذلك فلسفة انتقام من كلّ ما هو تحت سيطرة الدولة السورية، وهي ألّا تنسحب تركيا أو المسلّحون الذين تدعمهم من أيّ منطقة إلا بعد أن تكون قد دُمّرت بالكامل لإلحاق الأذى الأكبر بالدولة السورية، ولإبقاء الباب مفتوحاً، كما يعتقد ويأمل إردوغان، أمام الشركات التركية لتقوم بإعادة الإعمار حين يحين الوقت. وفلسفة التدمير الممنهج والشامل أمر حصل في مدينة حلب، كما قامت به الولايات المتحدة في مدينة الرقة.
4- تقوم فلسفة إردوغان على ألّا يخسر إدلب، حتى لا يتقدّم الجيش السوري ويصبح على حدود لواء الإسكندرون مباشرة، وهو ما لا يمكن لإردوغان أن يتصوّر حدوثه من جديد، وفي هذا الإطار، يتذرّع الجانب التركي بأن وجود الجيش السوري على الحدود مع تركيا يمثّل «خطراً» على الأمن القومي للأخيرة.
5- يعتقد إردوغان أن السماح بخسارة إدلب سيفتح الباب أمام تدحرج كرة الثلج، وتقدّم الجيش السوري إلى المناطق المحتلة الأخرى من قِبَل الجيش التركي، مثل عفرين ومثلث إعزاز - الباب - جرابلس ومنطقة شمال شرق الفرات. وبالتالي، فإن خط الدفاع الأول عن هذه المناطق هو إدلب.
6- بدأت صورة إردوغان القوي تتهشّم في تركيا، مع سقوط 15 قتيلاً من الجيش التركي خلال أقلّ من 20 يوماً على يد الجيش السوري نفسه. وهو ما جعل إردوغان يوغل في رفع سقف التهديدات، وإعلانه استعداده للموت من أجل إدلب (15 شباط الجاري) رفعاً للمعنويات المنكسرة.
7- يبقى أن السبب الأهمّ والاستراتيجي لمحاولة إردوغان الاحتفاظ بإدلب، مهما كلّفه ذلك من خسائر، هو أنه يريد أن يصل عام 2023 وقد أعاد من جديد الاعتبار لـ«تركيا الجديدة» التي سُرقت من الأتراك في «معاهدة لوزان»، حيث أراد الغرب، برأي إردوغان في تشرين الأول/ أكتوبر 2016، حبس تركيا داخل حدود الأناضول. ومنذ ذلك التاريخ، أي منذ خريف 2016، بات تكرار العودة أو استعادة حدود «الميثاق الملّي» لازمةً لإردوغان وكلّ مسؤولي حزب «العدالة والتنمية». وأصبحت رائجة مقولة أن على تركيا أن تدافع عن حدودها، ليس من نقطة الصفر الحدودية الراهنة، بل عند حدود «الميثاق الملّي» الذي يشمل كلّ شمال سوريا بما فيها إدلب وشمال العراق، وأصبح الأمن القومي التركي يبدأ من وراء حدود الميثاق. وعندما سأل زعيم حزب «الشعب الجمهوري» كمال كيليتشدار أوغلو، إردوغان، عمّا يفعل في إدلب وفي سوريا، ردّ عليه إردوغان بالقول: «ألم تنظر إلى حدود الميثاق الملّي وتوقيع مصطفى كمال (أتاتورك) عليه؟».
التطلّع الجدّي إلى احتلال شمال سوريا وفقاً لـ«الميثاق الملّي» يطرح جملة ملاحظات:
1- وجود «قوات الحماية» الكردية في شمال سوريا، والذي تقول أنقرة إنه يشكّل تهديداً للأمن القومي التركي، كان مجرّد ذريعة للدخول إلى بعض المناطق. إذ أن الأتراك دخلوا إلى حيث لا توجد قوات كردية مثل إدلب وحتى مثلث جرابلس - إعزاز - الباب.
2- العودة إلى حدود «الميثاق الملّي» يفترض تعميم الفوضى في سوريا وصولاً إلى تقسيمها. وهذا هدف مشترك لكلّ من أنقرة وواشنطن، وقد يكون منطلقاً لتنسيق وتعاون مستقبلي في الملف السوري. تقسيم سوريا شرط لاستعادة حدود «الميثاق الملّي». وما كان يَرِد في البنود الأولى من «بيانات أستانا» و«اتفاقيات سوتشي»، بين تركيا وإيران وروسيا، حول الحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها، لم يكن من جانب تركيا سوى ذرّ للرماد في العيون.
3- الرابح الأكبر، وربما الوحيد، من مسارَي «أستانا» و«سوتشي» كان تركيا التي استطاعت أن تحقّق هدفاً استراتيجياً يتمثّل في السماح لها باحتلال مثلث درع الفرات وعفرين وشرق الفرات، وتثبيت وضعها في إدلب عبر نقاط المراقبة. ووجدت سوريا نفسها أمام احتلال من جيش دولة إقليمية كبيرة وأطلسية ولها دوافع تاريخية، وهو الأمر الذي يصعّب عليها لاحقاً المواجهة، وهي المنهكة من حرب عمرها حتى الآن عشر سنوات. وهذا يحيلنا إلى مدى صحة تقديرات روسيا وإيران لنتائج تفاهمات «أستانا» و«سوتشي»، ويؤشّر إلى وجوب أن تعيدا النظر في طريقة تعاملهما مع تركيا في سوريا (علماً أن كلّ هذه الاتفاقيات هي اتفاقيات غير شرعية، ولا قيمة قانونية لها، وغير ملزمة بأيّ شكل لدمشق في ظلّ عدم وجود توقيع سوري عليها، وكونها غير صادرة عن مجلس الأمن الدولي).
4- في هذا السياق، بدأ إردوغان يكرّر الإشارة إلى «اتفاق أضنة» الذي نظّم العلاقات الأمنية بين تركيا وسوريا منذ عام 1998 وحتى عام 2011. ولكنه كان يشير إلى نقطة واحدة، وهي أنه يُسمح لتركيا بالتدخل في سوريا بعمق 15 كلم، علماً أنه لم يرد في الاتفاقية ما ينصّ على هذا الحق، إلا إذا كانت هناك ملاحق سرّية لم يؤكدها ولم ينفها أيّ من الجانبين التركي والسوري. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن هذه الاتفاقية حفظت الأمن شبه الكامل على جانبَي الحدود على امتداد 12 عاماً. لكن مجرّد التفكير بإرساء العلاقات الأمنية بين تركيا وروسيا من جديد على أساس «اتفاقية أضنة» ليس منطقياً، ولا يلبّي متطلّبات الأمن السوري. فالاتفاقية تعطي تركيا ضمانات سورية بمنع الهجمات الإرهابية عليها، في حين أن ما ظهر خلال الأزمة السورية هو أن تركيا، على رغم أنها لم تتعرّض لهجمات جدّية من داخل الحدود السورية، هي التي تدخّلت في الشأن السوري الداخلي، بدعمها للمعارضة على مختلف الأصعدة، وصولاً إلى انتهاك السيادة السورية واحتلال معظم الشريط السوري الحدودي مع تركيا.
|