يُدرك الخبراء في "الدرونز" دلالات إرسال طائرة رباعية مسيرّة إلى منطقة سكنية مكتظة كالضاحية الجنوبية لبيروت. تعديل هذا النوع من الطائرات والتغلب على حدود قدراتها المعروفة، والتحكم بها – على الأرجح – من مسافة قريبة هو "إنجاز" بالمعنى الأمني. لا يناقش عاقل في قدرات إسرائيل التقنية، وهي التي تُسجلّ عشرات براءات الاختراع سنويًا في مجالات عدة نتيجة تخصيصها مئات ملايين الدولارات للبحث العلمي. لا تتأثر ميزانية هذه السياسة بصعود اقتصاد إسرائيل أو هبوطه، خاصة وأنّ القطاع الخاص يعي أهمية دمج البحث والتطوير في بنيته، حتى بات اسم "إسرائيل" يقترن بالـ"هاي تك" High-Tech عالميًا (الأمن، الطب، الزراعة، الصناعة وغيرها من العناوين الحيوية).
للوهلة الأولى يبدو اجراء مقارنة بين القدرات العلمية بين إسرائيل وأعدائها أمرًا غير عادل، مع أنه يؤخذ على "محور بيروت ــ دمشق ـــ طهران أنه – باستثناء الحالة الإيرانية الخاصة والممتدة حضاريًا في الزمن بغض النظر عن واقعها السياسي – لم يستطع تقديم نموذج مؤسساتي في المجالات غير العسكرية، بما يتيح لطاقاته العلمية الشابة التحرر من الضغوط الاجتماعية والحياتية والتفرغ للابتكار والإبداع في خدمة قضايا الشعوب. وبقيت الإنجازات رهن تجارب فردية برزت عبر شخصيات استثنائية مرت في تاريخ الصراع مع إسرائيل. ويمكن القول إن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله هو نفسه أحد هؤلاء الاستثنائيين بمحاولته مجاراة التفوق الإسرائيلي المادي بسياسات؛ تحاكي – عن مصادفة - نظرية "أسس القوة" Base Force التي نظّرّ لها استراتيجيون أميركيون، ومنهم "كولن باول" عقب الحرب الباردة.
لعل حزب الله صار صاحب القرار الأقوى في لبنان، لكن ذلك ناجم عن تراجع الآخرين سياسيا، لا قوته هو سياسيا. و خير دليل على ذلك، احتفاظ الكثيرين بمواقعهم وأدوارهم السياسية
تستند هذه النظرية، التي تم تطويرها لاحقًا تحت اسم "نواة القوة"، إلى ثمانية عناصر تحتاجها أي قوة كي تكون فعالة:
التفكير الإستراتيجي: يجب على أي مؤسسة/ منظمة عسكرية أن تجعل الحديث عن الحقيقة أكثر أهمية من ولاء المقاتلين لسلسلة القيادة. وعلى الرغم من الملاحظات الكثيرة على خطاب حزب الله التكتيكي في الإعلام والسياسة، فإن قرارات الحزب لم تخرج يومًا في سياقها العام والإستراتيجي عن الواقع الجيو- سياسي للبنان وجواره. بل إنّ انتقاد قرار الحزب في ما يخص الذهاب إلى سوريا للدفاع عن خاصرته وظهره يكاد ينافي مقدمات الاستراتيجيا. كذلك الحال في إدارة الحزب للصراع مع إسرائيل، برغم مروره بمحطات شديدة الحساسية والخطورة، لم ينجرّ خلالها إلى رد فعل انفعالي، بل كان في كل مرة يعيد الردع إلى مستوى يستطيع فيه مقارعة إسرائيل وإجبارها على الالتزام بمعادلات مقبولة.
تعبئة المجتمع: يقارب السيد حسن نصرالله الخطاب التعبوي بإتقان شخصي. تساعده في ذلك خلفيته الدينية، وإن كان منتقدو هذا الخطاب يأخذون عليه صبغته العقائدية التي لم تثبت تاريخيًا أنها قادرة على اختراق الآخر المختلف. لا نغفل في هذه النقطة دور إعلام الحزب، ولكن هذا الدور بات يضيق أكثر مع الثورة التقنية وانفتاح بيئة المقاومة على أفكار أوسع من قدرة أي إعلام حزبي على تحمله.
الأمن الإلكتروني: لا يتحدث حزب الله بطبيعة الحال عن عناصر قوته في هذا العنصر الهام في قراءة ورصد المؤشرات المرتبطة بالصراع، كما بالبيئة الحاضنة. ولكنه بالتأكيد قد خصص آليات لمتابعة هذا العامل.
واقع المجتمع (الأمن الاجتماعي): في حرب تموز 2006، كانت قيادة حزب الله على تماس يومي مع واقع النازحين. هذا العامل ساهم بشكل مباشر في حسابات الحرب ومسارها ونهايتها. في كلمته الأخيرة في "عيد التحرير الثاني"، أشار نصرالله إلى أن المقاومة راعت كثيرا في السابق مطالب داخلية بعدم التوقف كثيرًا عند الخروقات الجوية الإسرائيلية. هذا دليل على أن الحزب يأخذ إستقرار المجتمع اللبناني في الحسبان، حتى وإن تنافى أحيانا هذا الاعتبار مع قناعاته.
الصراعات الأخرى: قفزت الحرب السورية إلى صدارة اهتمامات حزب الله إلى درجة بات معها المحللون يسألون عن قدرته على خوض حربين على جبهتين في وقت واحد. سرعان ما لحظت إسرائيل أن المكاسب والأثمان التي جناها الحزب تكاد تفوق كلفة مشاركته في الحرب في سوريا. إدارة الصراعات الأخرى من دون أن تتأثر ديناميات الصراع المركزي هو عامل قوة في نظرية "نواة القوة" أو "أسس القوة".
التهديدات المحلية: على الرغم من الاحتجاجات الكثيرة التي شهدها لبنان في السنوات الأخيرة، إلا أن موقع الحزب لم يهتز في المعادلة الداخلية. طلب الأمين العام لحزب الله بشكل علني من المحتجين في بداية حراكهم خوض هذه المعركة بمعزل عن الحزب. ومع أن "النأي بالنفس" عن المعالجة الجدية لشؤون الداخل هو أحد المآخذ الكبيرة لأصدقاء الحزب وخصومه في آن، فإن التركيبة اللبنانية الفريدة تبرر للحزب سلوك هذا المنحى، بغض النظر عن صحة هذا الخيار تكتيكيًا واستراتيجيًا على الصعيد الاجتماعي اللبناني. القصد من مقاربة هذا العامل أن الصراعات الداخلية اللبنانية لم تؤثر على مسار مراكمة القوة بالنسبة للحزب.
استخدام القوة في الداخل: من السهل الانجرار إلى هذا الخيار في دولة كلبنان. وفي حين يقف الكثيرون عند محطة السابع من أيار 2008 باعتبارها انتكاسة لحزب الله، فإن الحزب لم يتحول إلى قوة أمر واقع بسلاحه. نعم، لعل حزب الله صار صاحب القرار الأقوى في لبنان، لكن ذلك ناجم عن تراجع الآخرين سياسيا، لا قوته هو سياسيا. و خير دليل على ذلك، احتفاظ الكثيرين بمواقعهم وأدوارهم السياسية بالرغم من خصومتهم مع الحزب.
ضمان استقرار الدولة: لعلّ ما يمر به لبنان حاليًا من أزمة اقتصادية تهدد بقاءه هو أبرز نموذج على أهمية دور حزب الله في الفسيفساء اللبنانية. إذا ما انهار البلد، فالخيار البديل هو استلام الجهة الأقوى السيطرة. يتهامس البعض عن دور مقبول للجيش اللبناني كونه يحظى بموافقة اللاعبين الدوليين كما برضى الأطراف المحلية، وبما فيها الحزب نفسه، إلا انه من غير المعلوم مدى قبول التركيبة اللبنانية للتجربة العسكرية في الحُكم بالمعنى المباشر. وبالتالي فإن حزب الله حاليًا هو ضمانة – سلبية- بالنسبة للمجتمع الدولي الذي لا يريد سقوط الدولة اللبنانية بأسرها في أحضانه، كما أنه ضمانة داخلية لمن يود إيجاد الحلول. واستمرار الرئيس سعد الحريري في الحكم بالرغم من كل التعقيدات هو أحد مصاديق هذه الضمانة.
هذه العناصر الثمانية أعلاه هي أسس قوة حزب الله الحقيقية في مواجهة إسرائيل. يرفدها من دون شك توافر القدرة العسكرية وتراكم الخبرات، ولكن العامل الحاسم هو في الإرادة التي يصنعها الاستناد إلى "أسس القوة". وهكذا بينما تتفوق إسرائيل من دون شك في التكنولوجيا والاستخبارات، فإن "صراع العقول" ليس محسومًا ابدًا لمصلحتها، بل إن تطبيق العناصر الثمانية على الداخل الإسرائيلي يشير إلى نقاط ضعف خطيرة يثبت السيد نصرالله أنه يلتمسها جيدًا عند كل خطاب.
|