يشكّل جايير بولسُنارو وحكومته اليمينية «تهديداً لتوازن المناخ»، وتالياً للحياة البشرية على كوكب الأرض. هذا دأب اليمين المتطرّف الذي يرفض الاعتراف بالتغيّر المناخي، ويرى في غابات الأمازون المطيرة «عقبةً» أمام النمو الاقتصادي. سيَدفع العالم، على المدى الطويل، ثمن سياسات الرئيس البرازيلي البيئية، ودعوته إلى إزالة الغابات وفتح الأمازون أمام الأعمال التجارية، والتي شكّلت الرسالة الأهم خلال حملته الانتخابية.
غابات الأمازون المطيرة، أو مهد البحار الداخلية والبحيرات القارية. على مدى عدة ملايين من السنين، كانت هذه الغابات الاستوائية الغزيرة بمياهها مُغطَّاة بـ 400 مليار شجرة، وتنفث خُمس أوكسجين الأرض، وتُخزّن ما يُقدّر بـ«قرون» من الكربون، وتمتصّ كمية غير معروفة ولكن مهمة من حرارة الشمس، حتى بات يُطلَق عليها «الرئة التي تتنفّس منها الأرض». تدور 20% من المياه العذبة في العالم عبر أنهارها ونباتاتها وتربتها وهوائها. هذه الرطوبة تعمل على تغذية وتنظيم نُظم متعددة في نطاق كوكب الأرض، بما فيها إنتاج «أنهار في الهواء» عن طريق التبخّر.
في النصف الأخير من القرن الماضي، تم قطع وإحراق حوالى خُمس هذه الغابات (300 ألف ميل مربع) في البرازيل، حيث ثُلثا حوض الأمازون. تسبّبت إزالة الغابات هذه في حدوث اضطرابات كبيرة في المناخ الإقليمي وعلى مستوى الأمطار، كونها أفرغت الكثير من الكربون المخزّن، وهو ما يلغي فائدة الغابة باعتبارها مغسلاً للكربون. يحذر العلماء من أن فقدان خُمس إضافي من غابات البرازيل المطيرة سيؤدي إلى ظهور حلقة تغذية «مرتدّة» معروفة باسم «dieback»، تصاب هذه الغابات على إثرها بالجفاف والاحتراق، وهو ما سيؤدّي إلى إطلاق «قنبلة يوم القيامة» من الكربون المخزّن، فيختفي بخار السحب الذي يستهلك أشعة الشمس قبل أن يتم امتصاصه كحرارة، وتزول الأنهار في الحوض وفي السماء. خسارة هذا الخُمس في البرازيل يمكن أن تحدث خلال جيل واحد. لقد حدث ذلك من قبل، وهو يحدث الآن.
مادة إعلانية
لثلاثة أسابيع على التوالي، تلتهم الحرائق بمعدّل قياسي الغابات الشاسعة التي يقع الجزء الأكبر منها في البرازيل، بواقع أكثر من 72 ألف حريق، تسعة آلاف منها خلال الأسبوع الماضي، بحسب تقرير «المعهد الوطني البرازيلي لأبحاث الفضاء». تشكّل هذه الأرقام زيادة بنسبة 80%، بالمقارنة مع الفترة ذاتها من العام الماضي. وبينما يتقاذف سياسيو البرازيل الاتهامات في شأن هذه الكارثة، يبدو الرئيس اليميني، جايير بولسُنارو، غير آبهٍ، نظراً إلى أن سياساته وإجراءاته التدميرية في ما يخص قوانين الحماية البيئية وسلامتها تضرب عرض الحائط بالإنجازات التي سجّلتها العهود السابقة في ظلّ حكم اليسار البرازيلي. وفق إحصاءات موقع «إيكو ووتش» المختص بالبيئة، انخفض معدل إزالة الغابات في الأمازون بنسبة مذهلة بلغت 70 في المئة بين عامي 2005 و2011، أي خلال فترة حكم الرئيس الأسبق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، وذلك نتيجة تنامي الحركة الشعبية لحماية الغابات المطيرة، والتي ضغطت في اتجاه زيادة القوانين الحكومية. مُذّاك وحتى عام 2017، أي عندما دخلت البلاد مرحلة سياسية أكثر فوضوية، توقف انخفاض معدل إزالة الغابات، ولكنه لم يرتفع، إلى أن جاء جايير بولسُنارو الذي شكل عدم اعترافه بالتغير المناخي أحد أعمدة حملته الانتخابية، فضلاً عن وعوده بفتح غابات الأمازون أمام الأعمال التجارية، في خطة استعمارية وتدميرية، ثقافياً وإيكولوجياً، لأراضي السكان الأصليين. في هذا السياق، تظهر بيانات «المعهد الوطني البرازيلي لأبحاث الفضاء» أن تدمير غابات الأمازون ارتفع بنسبة 278% خلال شهر تموز/ يوليو الماضي، أي ألفين و254 كيلومتراً مربعاً، مقارنة بـ 596 كيلومتراً مربعاً في الشهر ذاته من العام الماضي.
أولى قرارات بولسنارو التنفيذية كرئيس قضت بإحالة الأراضي التي يعيش عليها السكان الأصليون إلى سلطة وزارة الزراعة، بحيث باتت الأخيرة مسؤولة عن «تحديد وترسيم وتسجيل الأراضي» التي يعيش عليها هؤلاء، ما أثار حينها تحذيرات بيئية من تهديد حياة وثقافة آخر حرّاس غابات الأمازون التي تسهم في الحفاظ على التوازن البيئي في العالم. الإجراء الصادم أثار حينها قلق المعنيين بشؤون البيئة والجماعات الحقوقية من أن يفتح الرئيس اليميني المتطرف المجال أمام المزيد من الاستغلال التجاري لغابات الأمازون المطيرة الشاسعة، وغيرها من المناطق الحساسة بيئياً في البرازيل. إذ إن الأمر التنفيذي يضع هيئة الغابات البرازيلية، المعنّية بدعم الاستخدام المستدام للغابات والتي يتّصل عملها حالياً بوزارة البيئة، تحت سلطة وزارة الزراعة، التي أصبحت بموجب النص القانوني مسؤولة عن إدارة الغابات العامة. كذلك، يقول منتقدون إن خطة بولسُنارو لفتح محميّات السكان الأصليين، الذين يبلغ عددهم 900 ألف نسمة، أمام الأنشطة التجارية ستقضي على ثقافات ولغات أهل البلد الأصليين جراء اندماج قبائلهم مع المجتمع البرازيلي.
حين سُئل عن انتشار الحرائق غير الخاضعة للرقابة، قال بولسنارو: «اعتدت على تصويري حاملاً المنشار. الآن، أنا نيرون الذي أحرق الأمازون!»، متهماً المنظمات غير الحكومية التي خفّض تمويلها بافتعال هذه الحرائق لتشويه صورة عهده. منذ تسلّمه منصبه، خفّض بولسُنارو حمايته للأمازون، وانتقد هو ووزراؤه العقوبات المشدّدة المفروضة على انتهاكات القوانين البيئية، معتبراً أن للمزارعين الحقّ في إحراق مساحات من الأراضي بغية استغلالها في زراعة فول الصويا وتربية الماشية. تعهد كذلك بتطوير منطقة الأمازون للزراعة والتعدين، متجاهلاً المخاوف الدولية في شأن زيادة إزالة الغابات. لسنواتٍ طويلة، كانت شركات التعدين الدولية والبرازيلية تحلم في السطو على الثروة المعدنية الكامنة في باطن أراضي ومحميّات السكان الأصليين. ويبدو أن حكومة بولسنارو مصمّمة على منح تلك الشركات هذه الفرصة، في إطار محاولاتها الحثيثة تجريد السكان الأصليين من سلطة صنع القرار في أراضيهم، تمهيداً لتهجيرهم.