بعد عام على بدء سريان مفاعيل اتفاق الجنوب، تعود المنطقة الجنوبية إلى واجهة المشهد السوري، بعد أن كانت قد شهدت هدوءاً نسبياً منذ الصيف الماضي. الاتفاق الذي عُرف حينها بـ«التسوية»، لم يستطع أن يضبط، لأكثر من عام، إيقاع المنطقة التي لطالما شكّلت تحدياً أمام دمشق وحلفائها. إذ إن الفترة الأخيرة شهدت كثيراً من عمليات الاغتيال ومحاولاته، فضلاً عن تحركات تخالف سياق التسوية، وتُنذر بخطر قادم. خطرٌ يفاقمه سعي العدو الإسرائيلي إلى استغلال الفوضى الحاصلة لتحقيق أهدافه الأمنية. إزاء ذلك، تبدو المنطقة الجنوبية أمام احتمال عودة العمليات العسكرية، التي سعت دمشق إلى تجنّبها طوال الفترة السابقة.
على امتداد الأشهر الثلاثة الأخيرة، شهد الجنوب عموماً، ودرعا وريفها خصوصاً، عشرات الحوادث التي يمكن إدراجها في خانة الأعمال الأمنية المحترفة. حتى نيسان/ أبريل الفائت، كانت الظروف الأمنية في المحافظة الجنوبية مستقرة نسبياً، وتسجّل تطوراً إيجابياً ملحوظاً، إلا أن كل ذلك ما لبث أن تحوّل إلى حالة من الفوضى الأمنية؛ إذ شهدت المنطقة عمليات إغارة على حواجز للجيش السوري، والمفارز الأمنية العائدة حديثاً إلى المنطقة. في الفترة الأولى، بدا الأمر وكأنه ردود فعل طبيعية على عمليات اعتقال محدودة قامت بها الأجهزة الأمنية الحكومية في محافظة درعا، استهدفت بعض المسلحين المطلوبين الذين رفضوا الانخراط في التسوية، ولم يتعاونوا مع الجيش السوري. لكن سرعان ما خرجت الأمور عن السيطرة، لتتحول إلى نهج وحالة شبه يومية. حالةٌ تبدو أقرب إلى عمل منظّم ناتج من قرار جدّي بإعادة إغراق تلك المنطقة في الفوضى، وسلب الدولة السورية عنصر المبادرة للعمل ضد الخلايا الأمنية، أو خلايا «داعش»، أو تلك المتعاونة مع العدو الإسرائيلي على الحدود مع الجولان المحتل. لكنّ قراراً كهذا لم يكن ممكناً تفعيله بالشكل الحالي، لو لم تتوافر إلى جانبه ظروف العودة إلى الأعمال الأمنية وشبه العسكرية. هذه الظروف هيّأتها طبيعة السياسة التي اعتُمدت في المنطقة منذ التسوية صيف العام الماضي، إذ سمحت تلك المدة من الهدوء لبعض الفصائل التي كانت تعمل بتوجيهات خارجية كفصائل «الموك» (التي جُمِّد عملها بالتزامن مع التسوية) مثلاً، أن تعيد تجميع عناصرها وتشكل مجموعاتها بشكل غير علني. أي إن مسلحي هذه الفصائل حصلوا على الأمان بفعل التسوية، ومُنعت يدُ الدولة من الوصول إليهم، واحتموا بالتفاهمات التي عقدوها مع الجانب الروسي الذي وفّر الغطاء لهم، وتُركت أسلحتهم الفردية بأيديهم، ما جعلهم في وضع ملائم لإعادة تفعيل جهودهم بحسب متطلبات المرحلة.
في حديث إلى «الأخبار»، يؤكد مصدر عسكري سوري مطّلع أن مسلحي الجنوب في الوقت الراهن «لديهم القدرة على تنفيذ عمليات أمنية وتخريبية صغيرة، فهم يمتلكون السلاح الكافي والخبرة والتدريب، فضلاً عن أن لديهم معرفة واسعة بالجغرافيا وكيفية تنفيذ عمليات كهذه ثم الانسحاب والاختفاء». ويضيف المصدر أن «السلاح موجود بوفرة (...) نعم هم سلّموا القليل من أسلحتهم، وباعوا بعضها الثقيل والصواريخ المضادة للدروع، لكن الأسلحة الفردية والعبوات والألغام ما زالت موجودة بكثرة، ولم يطالبهم بها أحد». وهنا، يجدر التذكير بأنه بموجب بنود التسوية، فإن الدولة، سواء عبر الأجهزة الأمنية أو الجيش، لا تستطيع تنفيذ مداهمات داخل القرى والأحياء، كذلك فإن المسلحين غير ملزمين جميعاً بتسليم أسلحتهم الفردية، ما يصعّب ضبط الأوضاع وملاحقة المعتدين.
كل هذه الظروف المناسبة لعودة التوتر إلى الجنوب، كان ينقصها القرار فقط لبدء تنفيذ العمليات الأمنية. قرار لا يمكن إلا أن يكون خارجياً، نظراً إلى ارتباط الفصائل الجنوبية بجهات خارجية أبرزها واشنطن وعمّان وأبو ظبي، التي هي أصلاً دفعتها باتجاه التسوية مع الجانب الروسي. في هذا الإطار، يؤكد مصدر أمني سوري رفيع، لـ«الأخبار»، المعلومات التي تتحدث عن إعادة تفعيل غرفة عمليات «الموك» المتمركزة في الأردن، التي كانت تقود فصائل الجنوب لسنوات طويلة خلال الحرب. ويقول المصدر إن لدى دمشق «معلومات دقيقة عن ذلك، وقد استُدعي أخيراً أحد الضباط الأجانب مِمَّن عملوا سابقاً مع الفصائل الجنوبية إلى الغرفة»، مشيراً إلى أنّ «هذا العمل يهدف إلى زعزعة استقرار المنطقة الجنوبية، وإظهار الدولة عاجزة عن ضبط المناطق التي تسيطر عليها». وما يُنذر بالأسوأ، أنه حتى الفترة الأخيرة، كانت أكثر الأحداث الأمنية قد وقعت فعلياً في المناطق الخاضعة سابقاً لسيطرة الفصائل، التي تعرف بـ«مناطق التسويات». أما اليوم، فقد توسّعت رقعة الأحداث لتشمل بلدات وأحياء لم تخرج أصلاً عن سيطرة الدولة، كعتمان وضاحية درعا وحيّ السبيل، وهو ما يعزّز الاعتقاد بوجود قرارٍ خلف ما يجري.
على خط موازٍ، وفي تطور لافت، تبنى تنظيم «داعش» تفجيرين في المنطقة الجنوبية الشهر الماضي. الأول هو تفجير إحدى السيارات في منطقة القدم جنوبي العاصمة دمشق، حيث زعم التنظيم أنه استهدف «أحد قادة قوات الدفاع الوطني». أما التفجير الثاني، فهو تفجير انتحاري وقع على الطريق الواصل بين الحراك ومليحة العطش في ريف درعا الشمالي الشرقي، بعدما قامت ــــ بحسب معلومات «الأخبار» ــــ دورية مشتركة من مجموعة تابعة للفيلق الخامس (أغلبه من عناصر التسويات)، الى جانب عناصر أمنيين، بمداهمة مزرعة هناك، ليتبيّن أنها مقرّ سري لعناصر من «داعش»، فجّر أحدهم نفسه على إثر المداهمة بحزام ناسف، ما أدى إلى إصابة عدد من الجنود، ومقتل عنصر من التنظيم، واعتقال آخر بعد إصابته.
تقول مصادر أمنية سورية معنيّة بملف الجنوب، لـ«الأخبار»، إنه «ليس ثمة وجود فعلي لمجموعات تنظيم داعش في درعا وريفها، لكن يمكنهم أن يأتوا إلى المنطقة على شكل أفراد ومجموعات صغيرة»، مؤكدة أن «لا تمركز لهم هناك». لكن المصادر نفسها تشير إلى ما يمكن اعتباره أدلة إضافية على خطوات تقوم بها خلايا متفرقة من التنظيم، لتنفيذ عمليات أمنية وشبه عسكرية جديدة في المنطقة، إذ تبيّن أن «شاحنتي أسلحة جاءتا من جهة منطقة التنف الحدودية عبر الصحراء إلى ريف السويداء، وكان من المفترض أن تُسلّما لعناصر تابعين للتنظيم، لكنّ الجيش ضبطهما، وكان هذا منذ مدة قصيرة». وتؤكد المصادر نفسها الحديث عن إعادة بناء خلايا «داعش» في ريف السويداء الشرقي، حيث «رُصدَت تحركات ميدانية تشير إلى ذلك»، مضيفة أن «لا خوف من عمليات عسكرية كبيرة، لكن التخوف من العمليات الانتحارية والتفجيرات». لا تهمل دمشق وحلفاؤها، خصوصاً الجانب الروسي الذي تبنّى التسوية في الجنوب ورعاها لمدة عام كامل، ما يحدث من تطورات أمنية هناك. وفي هذا السياق، تعمل هذه الأطراف على معالجة الأوضاع وضبط الموقف. ومنذ أيام قليلة، عُقد بحسب معلومات «الأخبار» اجتماع ضمّ كبار ضباط الجيش في الجنوب، إلى جانب مسؤولي الأجهزة الأمنية، وضباط الشرطة العسكرية الروسية المعنيين بالمنطقة، أُجري خلاله تقييم للمرحلة الحالية، أفضى إلى الخروج بخلاصة واضحة، مفادها أن «ما يحدث في الجنوب قد تجاوز ردود الفعل، وأصبح نهجاً ومساراً متّبعاً، ويجب التعامل معه بجدية فائقة، ولو احتاج الأمر إلى استعمال القوة عبر عمليات عسكرية وأمنية محدودة». خلاصةٌ جرى التوصل إليها بعدما عجز الجانب الروسي عن معالجة التوتر عبر الاتصالات والتفاوض، ليصل الأمر منتصف الشهر الفائت إلى تسجيل سابقة، حيث فُجِّرَت عبوة ناسفة على مسافة قريبة من دورية للشرطة العسكرية الروسية من ثلاث آليات، بأسلوب تعمّد عدم قتل أي من عناصرها، وذلك على الطريق الواصل بين مدينة بصر الشام وبلدة السهوة في ريف درعا الشرقي، الأمر الذي عُدّ رسالة تحدٍّ للجانب الروسي، ومحاولة للضغط عليه لمنعه من الانخراط في العمل مع الجيش السوري ضد العناصر المتورطين في تنفيذ عمليات ضد الدولة والجيش.
|