يبدو أن استراتيجية «أمسكوني» مترسّخة في وعي صاحب القرار في تل أبيب، الذي ثَبت أنه يراهن على دورها وتأثيرها في تحقيق مطالبه. استراتيجيةٌ مبنيّة على تخويف الآخرين من الخيارات العسكرية الإسرائيلية التي لا تتعلق فقط بالأعداء، بل أيضاً بالحلفاء. واحدة من مصاديقها «كليب» صدر أمس عن مكتب رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، يظهر فيه الأخير مُهدّداً إيران وخلفه طائرات «أف 35»، في محاولة للإيحاء بأن خياراته العسكرية موجودة بالفعل، مع التلميح إلى أنه لن يتردد في استخدامها. وبعدة لغات، عمّم مكتب نتنياهو الآتي: «تفقّد رئيس الوزراء ووزير الدفاع نتنياهو صباح اليوم سرب طائرات أف 35، وعقد جلسة أمنية مع كل من رئيس هيئة الأركان العامة الفريق أفيف كوخافي، وقائد سلاح الجو اللواء عميكام نوركين، ومنتدى قادة سلاح الجو في قاعدة نيفاتيم الجوية». وأعقب ذلك تصريح له قال فيه: «قمت بجولة تفقدية مثيرة جداً في قاعدة سلاح الجو. أرى جميع منظومات الأسلحة وطائراتنا. ومن خلفي تقف طائرة أف 35. إيران تهدد أخيراً بتدمير إسرائيل. يجب أن تتذكر إيران بأن هذه الطائرات تستطيع أن تصل إلى كل مكان في الشرق الأوسط، وأيضاً إلى إيران، وبكل تأكيد أيضاً إلى سوريا».
في التحليل، يمكن القول ابتداءً، وبلا تردد، أن لا علاقة بين «كليب» نتنياهو والتهديدات الإيرانية بتدمير إسرائيل، والتي كانت في حقيقتها ردّ فعل على مجمل الحرب المعلنة ضد إيران، بكل مركباتها، ومن بينها تهديدات سابقة بالخيارات العسكرية، صدرت عن الولايات المتحدة وإسرائيل. الواضح أن نتنياهو استخدم تلك التهديدات الإيرانية ليتموضع دفاعياً في معرض استعراض قوة إسرائيل الهجومية، أي إنها مناسبة وليست سبباً. يهدف هذا «الكليب» إلى إعادة الصدقية لأهم عناصر الضغط في مواجهة إيران: الخيارات العسكرية. وهذه الخيارات التي باتت مثقوبة بفعل التطورات السياسية والميدانية الأخيرة في الخليج، وتحديداً الانكفاء العسكري الأميركي، تعني من ناحية عملية فقدان أهم روافع التأثير التي كان من شأنها ردع طهران ومنعها من الرد على الضغوط، ودفعها إلى الاكتفاء بتلقي تداعيات الحصار من دون ردود فعل.
على هذه الخلفية، يُعدّ استعراض نتنياهو محاولة كلامية لترميم أوراق الضغط الأكثر تأثيراً في سياق المواجهة بين الجانبين، سواء وصلت الأمور إلى المواجهة العسكرية، أم لم تصل. وكما هو معلوم، فإن مفعول الخيارات العسكرية لا يقتصر فقط على استخدامها الفعلي، بل على حقيقة وجودها أولاً، وعلى إرادة استخدامها ثانياً، وعلى إدراك العدو كل ذلك ثالثاً. وإذا تحققت الشروط الثلاثة، فمن شأنها أن تعطي نتائج بذاتها، من دون المخاطرة بالاستخدام الفعلي للخيارات العسكرية. وفي حدّ أدنى، إرادة استخدام القوة العسكرية، مع التسليم بوجودها، باتت موضع شك كبير لدى صانع القرار في طهران.
من هنا، يُطرح سؤال: هل يكفي «كليب» استعراض القوة ليغيّر نتنياهو ما ترسخ في الوعي الإيراني؟ علماً بأن قرار إيران بالمواجهة الميدانية جاء قبل اتضاح مستوى الانكفاء الأميركي العسكري، وترسّخ لاحقاً بعد الانكفاء. والفرق بين الحالتين كبير جداً. و«كليب» نتنياهو غير مخصص حصراً للجانب الإيراني، وإن كان الأخير واحداً من أهم استهدافاته، بل هو مخصص أيضاً للولايات المتحدة، وبشكل أكبر للدول الأوروبية الثلاث: بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وذلك من خلال التلويح غير المباشر بالقوة العسكرية وإرادة تفعيلها، بهدف القول إنه إن تمت التسوية التي يُعمل عليها الآن بين إيران والدول الثلاث، أو تم التوصل إلى أي «ستاتيكو» ـــ بلا تسوية مكتوبة ــــ لا يرضي تل أبيب، فهذا يعني المخاطرة بمواجهة الخيار العسكري الإسرائيلي وجرّ المنطقة والعالم إلى حرب من شأنها الإضرار بمصالح الجميع. هي إذاً محاولة ضغط إسرائيلية تستنسخ محاولات الضغط المشابهة لمرحلة ما قبل الاتفاق النووي عام 2015، وتحديداً في عامي 2012 و 2013، حين كان التهديد مُوجّهاً أولاً إلى الولايات المتحدة، بأن إسرائيل على وشك شن هجوم على إيران ما لم تعالَج مخاوف تل أبيب. في حينه، مارس نتنياهو ووزير أمنه، إيهود باراك، استراتيجية «أمسكوني» بنجاح في مقابل الأميركيين، فهل تنجح الاستراتيجية نفسها عام 2019؟ من المقدر أن يشهد الحراك الإسرائيلي المزيد من «الكليبات» والمواقف التهديدية، مع تظهير وتضخيم للتغطية الإخبارية والتحليلية للتدريبات العسكرية والمناورات التي يُفهم منها التوثب لشن هجمات بعيدة المدى، مع أقصى المحاولات لتوظيفها في استراتيجية «أمسكوني» لنتنياهو وكبار وزرائه وجنرالاته.
|