– ربما يغيب عن أذهان الكثيرين أن جوهر الصراع الدائر منذ تحرير حلب من الجماعات المسلحة المدعومة من تركيا، وانطلاق قطار الدولة السورية بدعم روسي إيراني لاسترداد كامل الجغرافيا السورية، هو الصراع على مستقبل الجولان، بين رؤيتين أميركية وروسية رؤية أميركية تربط الاعتراف بعودة سورية ببقاء الجولان تحت السيطرة الإسرائيلية، وتعتبر أن عودة باقي الجغرافيا السورية باستثناء الجولان يجب أن يكفي لعودة الاستقرار لسورية.
وعلى هذه الخلفية قامت واشنطن بخطوتين مهمتين، الأولى عرض مقايضة الانسحاب الأميركي من سورية بانسحاب إيران وقوى المقاومة، والثانية تأييد قرار إسرائيلي سابق بضم الجولان، بما يعنيه من إسقاط للضمانة الأميركية كشريك في اتفاق فك الاشتباك عام 1974 وما يعنيه من تنطر للقرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن بإدانة قرار الضم، وإدانة قرارات الاستيطان، وتأكيد الهوية السورية للجولان المحتل.
– الرؤية الروسية كانت واضحة من لحظة التمسك باتفاقية فك الاشتباك كإطار للوضع على حدود الجولان ضمن مفهوم ارتباط الاتفاقية بالقرارات الدولية التي تنص صراحة على الانسحاب الإسرائيلي من الجولان، والضغط الروسي لتراجع أميركي وإسرائيلي أمام التقدم السوري نحو الجنوب قبل عامين. كان في هذا السياق، ومثله تجاهل عروض مقايضة الوجود الأميركي بوجود إيران وقوى المقاومة، ورفض الموافقة الأميركية على ضم الجولان، وصولاً لقناعة روسية بأن الحديث عن انسحاب جميع القوات غير السورية باستثناء روسيا يمكن أن يشمل إيران عندما يكون المطروح مقابله انسحاباً إسرائيلياً من الجولان، تقوم روسيا بعرضه مدخلاً للاستقرار في المنطقة في كل مناسبة وكل لقاء، وتبدي الاستعداد للبحث بالضمانات الأمنية لـ»إسرائيل» في حال قبول وضعه بنداً للبحث على الطاولة.
– مشروع صفقة القرن شكل الإطار الشامل للرؤية الأميركية وكانت روسيا تراه فاشلاً منذ أعلن الفلسطينيون إجماعهم على رفضه، وأعلنت التضامن معهم بمقاطعة مؤتمر المنامة. والرؤية الروسية لسياق تطور أوضاع سورية وامتداد سيطرة الدولة السورية على جغرافيتها لا يلحظ حاجة لوضع الوجود الإيراني على الطاولة لضمان انسحاب الأتراك والأميركيين. فسياق الرؤية الروسية يضمن مقايضتهما ببعضهما البعض، الأميركيون يفرجون عن مطالب الأمن التركي بإلغاء خطر الكيان الكردي، والأتراك يقايضون شراكتهم بالحل السياسي بالإفراج عن الجغرافيا السورية التي يحتلونها، والانسحاب التركي وإقلاع التسوية السياسية كفيلان بتسريع روزنامة الانسحاب الأميركي، والتجاذب الإيراني الأميركي مفيد للرؤية الروسية لأنه يضع الوجود الأميركي في سورية كواحد من الأهداف المعرضة لعمل عسكري في أي مناخ متوتر، بحيث يصير الانسحاب الأميركي من سورية ضمن مفهوم تسوية سياسية سورية مخرجاً يحفظ ماء الوجه، خصوصاً بربط الأميركي توقيعه الأخير على التسوية بإعادة الإعمار وليس بالانسحاب كما كان من قبل.
– الجولان في منظور «إسرائيل» وأمنها، مقنع للأميركيين الذين ليس بينهم وبين إيران ومعها قوى المقاومة من قضية تتقدم على قضية أمن «إسرائيل»، ليس باعتبارها خدمة لـ»إسرائيل» بل باعتبارها أهم عناوين القوة الأميركية في المنطقة والتخلي عن أسباب قوتها بمثابة إعلان هزيمة أميركية كاملة وخروج مهين من المنطقة الأهم في العالم، وسقوط لمكانة الدولة الأولى في صناعة السياسة والأمن عالمياً، لذلك تعرف «إسرائيل» أن الجولان ليس غزة ولا جنوب لبنان، وتعرف أن خروجها منه ولو بنقله لحماية دولية معزّزة بضمانات روسية أميركية لن يثني قوى المقاومة، التي تعرف خصوصية الجولان وموقف أهله كما تعرفهما «إسرائيل»، عن التمركز على ضفاف بحيرة طبريا في اليوم الثاني للانسحاب الإسرائيلي منه، وما يعنيه ذلك للأمن الاستراتيجي لـ»إسرائيل» الذي يبدأ وينتهي في الجليل ومستقبل الجليل يرتبط بمستقبل الجولان عضوياً ووجودياً.
– لا يمكن لأحد أن يطالب الدولة السورية بقبول تساكن هادئ على حدود الجولان مع قوات الاحتلال في ظل إعلان إسرائيلي مدعوم أميركياً بضمّ الجولان، وفي توقيت ما سيكون الجولان جبهة ساخنة وقد تنزلق للأشد سخونة ويصير السؤال عن كيفية تفادي نشوب الحرب، ولذلك يبقى الإيرانيون وتبقى قوى المقاومة وتريد سورية منهم أن يبقوا، ولا تمانع روسيا في بقائهم، لأن مصلحة سورية تكمن بطرح السؤال ومصلحة روسيا تتحقق بتقديم الجواب، وحتى ذلك الحين غير البعيد، تحاول «إسرائيل» القول إنها قادرة على فرض الابتعاد الإيراني بالقوة، وهي أمام مأزق كونها مضطرة للاختيار بين غارات توجع إيران وقوى المقاومة لتراهن عليها كبديل عن وضع الجولان على الطاولة. وفي هذه الحالة كل وجع يقابله وجع من نوعه وحجمه، وتبادل الألم قد يُخرج الأمور عن السيطرة، والعمل الذي يكتفي باللعبة الإعلامية دون التسبب بألم لا يمنع اقتراب لحظة يصير الوضع في الجولان هو الواجهة التي تتصدّر وضع سورية، وتبدأ السخونة ويصير السؤال مطروحاً عن كيفية منع الحرب ويطرح الروس الجواب.
– الجولان مفتاح المنطقة وبيضة القبان فيها، وجنوب سورية المتصل بالجولان ليس قضية طائفية يمكن أن يظنّ البعض، رغم فشل محاولاته السابقة، أن اللعبة فيها متداخلة بين لبنان وسورية وأنها لا تزال مفتوحة، ويمكن التجربة مرة أخرى ببعض التشجيع الخارجي والعبث الداخلي.
|