تتحول الضفة المحتلة منذ سنوات إلى منطقة تُنتج المخدرات وتزرعها على نحو أعلى من ذي قبل، وهو ما لم يكن موجوداً بالكثافة الحالية قبل 2011. إذ يذكر تقرير «مكتب الأمم المتحدة المعنيّ بالمخدرات» (UNODC) أنه ما بين 1994 و2006، ومن مجمل 6307 قضايا، بلغت نسبة الإتجار 12.8%، والتعاطي 57.4%، والترويج والتوزيع 7.6%، والزراعة 22.3%. لكن وفق التقرير السنوي لعام 2016 الصادر عن «إدارة مكافحة المخدرات» في الشرطة الفلسطينية، قفز عدد المقبوض عليهم على خلفية المخدرات إلى ثلاثة أضعاف مقارنة بـ2008، مع ارتفاع لاحق لهذه الأعداد في التقارير اللاحقة خلال السنوات التالية، التي تكشف ازدياد نسبة الزراعة من بين القضايا السابقة.
هكذا، صارت زراعة النباتات المخدرة في الضفة «جريمة منظمة» (على رغم حرص الجهات الأمنية على استعمال وصف «أشبه بالجريمة المنظمة»)، بعدما ازدادت عمليات الزراعة منذ ثمانية أعوام لأسباب كثيرة، أبرزها إغلاق منافذ الإنتاج الرئيسية التي كانت تمدّ إسرائيل بالمخدرات من الدول المحيطة، والتضييق عليها، إضافة إلى العقوبات الإسرائيلية المشدّدة على صعيد الزراعة داخل الأراضي المحتلة عام 1948. لذلك، ولأسباب أخرى، لجأ تجار المخدرات الإسرائيليون إلى أراضي الضفة، حيث تنخفض تكلفة الإنتاج والمخاطرة الأمنية، فضلاً عن أن فتح عدد من «المعابر» والحواجز الرابطة بين أراضي الضفة وأراضي 48 أتاح حرية حركة أفضل للتجار من حاملي الهوية الإسرائيلية (فلسطينيي الـ48)، مقابل حركة أقلّ للفلسطينيين تحت حكم السلطة الذين يحتاجون «تصريحاً أمنياً».
«تعاون» تحت الاحتلال تشترك في عملية الزراعة شبكات منظمة مكوّنة من فلسطينيين يقطنون الضفة، ويتنوعون ما بين مزارعين عاديين أو وسطاء ووكلاء، وصولاً إلى «الرأس الكبير»، والأخير غالباً يكون عربياً يحمل الهوية الإسرئيلية ويقطن أراضي الـ 48، وأحياناً يكون مستوطناً إسرائيلياً يسكن في واحدة من مستوطنات الضفة. أما طرق استخدام الأراضي، فتتنوع بين أن يزرع الفلسطيني أرضاً له بالقنّب الهندي (الحشيش) مثلاً، أو أن يحتفظ بالمزروعات داخل أوعية في مكان ما، أو أن يُؤجّر الفلسطينيون أراضيهم لمصلحة مستوطنين، من دون علمهم غالباً، لأن الأمر يجري عبر سماسرة ووسطاء مروجين عرب يحملون جنسية إسرائيلية يكونون هم في الواجهة، وفي أحيان قليلة يصل الأمر إلى الشراكة بين الوكلاء وصاحب الأرض. تكشف مصادر خاصة، في حديث إلى «الأخبار»، أن عمّالاً فلسطينيين داخل مستوطنات الضفة عرض عليهم رب العمل الإسرائيلي زراعة بذور نباتات المخدرات في قراهم ومدنهم، مقابل الحصول على مبالغ كبيرة. فالشتلة الواحدة من الحشيش يراوح ثمن زراعتها والعناية بها ما بين 500 إلى 600 شيكل على الأقل (140 إلى 165 دولاراً أميركياً)، أي إن زراعة 500 شتلة ورعايتها ثم تسليمها لصاحب البذور تجعل المزارع يحصل على ربع مليون شيكل تقريباً (نحو 140 ألف دولار. كذلك إن ثمن كيلو الماريغوانا (القنّب المخدر) الواحد بعد إنتاجه يُقدّر بما يزيد على 15 ألف شيكل. وما يجعل عدداً من هؤلاء يضعفون ويقبلون على التعامل، أنهم يبحثون عن فرصة للثراء السريع، إضافة إلى أن صعوبة الوضع الاقتصادي تشكل حافزاً، إلى حدّ أنه يشيع بينهم أنه بـ«ثلاث ضربات ناجحة (عمليات زراعة وبيع) تصبح مليونيراً»، فضلاً عمّن هم أساساً يشكلون عصابات، وهنا يكون الشخص الواحد منهم مموّلاً وموزّعاً بعد الإنتاج. لا يشمل «التنسيق الأمني» القضايا الجنائية، ومنها ملاحقة زارعي المخدرات ومروّجيها
بجانب ذلك، تكشف المصادر أن كبار التجار في الضفة مسلحون (مسدسات نارية على أقل تقدير)، ويعمل تحت إمرتهم موزعون وتجار أصغر، وصولاً إلى أسفل الهرم الذي يتمثل بمروجين أو موزعين صغار، مضيفة أن «واقع المخدرات الفلسطيني هو مافيات صغيرة، لكنها تتجنب افتعال المشكلات في ما بينها، أو مع السلطة الحاكمة، فضلاً عن أنها تحتمي ببطاقات هوية زرقاء (إسرائيلية) تهرب بها في أي وقت ولا أحد يحاسبها». وإذا كان المزارع فلسطينياً يحمل الهوية الإسرائيلية (والدته من الداخل المحتل مثلاً) ويسكن في الضفة، فإنه عند اكتشاف مزروعاته سيفرّ نحو ضواحي القدس أو المناطق المصنفة «ج» إلى فلسطين المحتلة نفسها، كذلك إن اتفاق أوسلو يضمن له استحالة ملاحقته ومعاقبته أمام محاكم السلطة.!
لا يُقدّم التجار أو الوكلاء البذور إلى الفلسطينيين فقط، بل يمنحونهم تدريباً على كيفية زراعة النباتات المخدرة وآليات رعايتها، وتطور الأمر أخيراً إلى توفير تقنيات حديثة تخلق مناخات مناسبة لنمو هذه النباتات من تهوية وإضاءة وسقاية وغيرها. وكلما زادت التقنيات وتوافرت الظروف الأنسب للزراعة، كان الإنتاج سريعاً ومدة تسليم النباتات الجاهزة أقصر. مقابل هذا، يتنصل الوكيل أو مانح البذور من مسؤولية الخسارة، بينما في حالات سابقة كانت الخسارة تقع على عاتق الوكيل أو المموّل من أراضي الـ48، لكنه الآن يخسر ثمن البذور فقط إذا اكتشفت الشرطة الفلسطينية المشتل أو مكان الزراعة، وهنا يمكنه تعويض خسارته، بل ربح الأضعاف في مشاتل ثانية قد تنجح في مناطق أخرى ومع مزارعين آخرين.
لعبة القط والفأر جراء التركيبة السابقة، وغياب التنسيق مع الجانب الاسرائيلي في هذه القضايا، يبرز عجز الشرطة الفلسطينية عن إنهاء زراعة المخدرات وإنتاجها داخل الضفة. إذ يشير التقرير الإحصائي السنوي للشرطة إلى أن المدة ما بين عامي 2015 و2016، إضافة إلى الربع الأول من 2017، شهدت ضبط 23 مشتلاً لزراعة النباتات المخدرة في مناطق الضفة كافة (أ، ب، ج)، وكان العدد الأكبر منها في «ج»، بنسبة 60% (14 مشتلاً). لكن في العام التالي، أي 2018، أعلنت الشرطة ضبطها أربعين مزرعة تحوي 22 ألف نبتة خلال 9 أشهر فقط، ما يعني ضعف المزارع المضبوطة خلال 27 شهراً سابقة! تكشف هذه الأرقام أنه توجد عمليات إنتاج متسارعة في مزارع جديدة أو غير مكتشفة سابقاً؛ فـ«الحدود مفتوحة»، والاختراق الإسرائيلي متواصل، والاحتكاك بالفلسطينيين مستمر في ظل وضع اقتصادي صعب. ومناطق «ج»، التي يمنع اتفاق أوسلو السلطة وأجهزتها من دخولها مقابل تمتّع العدو بصلاحية كاملة أمنياً فيها، صارت الملجأ الأسرع لعصابات المخدرات، سواء أكانوا مزارعين أم مروجين أم تجاراً كباراً، علماً أنها تشكل نحو 61% من مساحة الضفة، وأهم قسمين فيها: الأول يحيط بمدينة الخليل جنوباً ويقطنه 67 ألف فلسطيني، والآخر يحيط بالقدس ويقطنه نحو 75 ألفاً. من جانب آخر، تعتمد الشرطة الفلسطينية استراتيجية ثابتة أمام متغيرات وأساليب تتطور. فأماكن مزارع المخدرات وأحجامها تتبدّل وتختلف، كذلك لا يمكن حصر المزارع في بقعة جغرافية معينة؛ إذ في المناطق الريفية ضُبطت مزارع في أماكن نائية، وفي المدن اكتُشفت مزارع على أسطح منازل وبنايات سكنية، وكذلك في أبنية مهجورة وكهوف وأماكن أخرى كبنايات سكنية بأكملها أو طوابق محددة منها، وحتى داخل آبار مخصصة لجمع مياه الأمطار، وفي «دفيئات زراعية» بلاستيكية. أيضاً، اعتمد أصحاب المشاتل على أسلوب «الزراعة المموهة» التي لا تقتصر على شكل محدد؛ إذ تموَّه البنايات الكبيرة، وأحياناً قد يصل الأمر إلى تمويه حواسيب شخصية داخلها نباتات، وتضمّ حاضنة مزوّدة بالإضاءة والظروف المناسبة للنمو، كما رُصد في وقت سابق استغلال زراعة موسمية طبيعية لخلط نباتات مخدرة بمحاصيل زراعية تشبهها في الشكل واللون إلى حدّ ما.
أحدثُ ما ضبطته الشرطة في الضفة وأثار ضجة مجتمعية، مختبرات متكاملة تمثّل «تطوراً خطيراً» في زراعة المخدرات، مثل مشتل المخدرات في بلدة نعلين غربي رام الله، الذي اعتمد تقنية «الزراعة المائية» وتقنيات أخرى عالمية، وقد اعتُقل صاحب المشتل وتبين أنه من مدينة يافا المحتلة ويسكن في نعلين. كذلك اكتشفت فيلا كبيرة بطبقات جنوب الخليل كانت مستنبتاً متكاملاً، تبدأ بزراعة المخدرات في تربة خاصة، ثم رعايتها، وصولاً إلى قطفها وتجفيفها وإنتاجها وتغليفها. والخميس الماضي، ضبط جهاز «الأمن الوقائي» ألف بذرة من «الماريغوانا» في نابلس (شمال) «بناءً على معلومات استخبارية عن شراء شخص هذه البذور من الـ48».
________________________________________
الحشيش والماريغوانا للفلسطينيين... و«الهايدرو» للإسرائيليين تُقدِّر أحدث الإحصاءات الرسمية عدد متعاطي المخدرات في فلسطين بنحو 80 ألف شخص، منهم ما بين 25 ـــ 30 ألفاً في الضفة. ووفق «المعهد الوطني التابع» لوزارة الصحة، تضاعف عدد المدمنين ليصل إلى نحو 27 ألفاً في الضفة وغزة، مع ارتفاع ملحوظ في أعداد الإناث المتعاطيات. وتُصنَّف المخدرات وفق مصادرها إلى طبيعية ومصنّعة وصناعية، ويستحوذ الحشيش والماريغوانا على حصة الأسد من المخدرات التي يعتمد عليها المتعاطون في الضفة؛ جراء سهولة الوصول إليها وانتشارها الكبير وانخفاض سعرها مقارنةً بأصناف أخرى.
وبينما الحشيش ومجمل المواد المستعملة في التدخين، أكثر الأصناف المستهلَكَة فلسطينياً، يشتهر المستوطنون والإسرائيليون في فلسطين المحتلة بـ«المخدرات الخفيفة» أو «القانونية» التي تُباع على الأرصفة بصورة عادية، ومن أبرزها «الهايدرو»، وهو مزيج من النباتات كالقنّب الهندي ومواد كيميائية أخرى، وقد رُوِّج لاحقاً (عكسياً) في الضفة. ولأن الزراعة صعبة في فلسطين المحتلة، يزيد الطلب على هذه الأنواع مقابل نقص العرض، ولذلك يعمل التجار الكبار على سدّ حاجاتهم منها عبر تحويل الضفة إلى مركز زراعة وإنتاج.
|